انتهى رمضان وبعده إجازة العيد ونعود مجدداً إلى «بزرميط» حياتنا اليومية بتفاصيلها الرهيبة وخطوطها المخيفة وملامحها الملتبسة ونتائجها التى لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. وقد بدا واضحاً جلياً طيلة أيام الشهر الفضيل أن العبارة الخالدة «تجديد الخطاب الدينى» -المشتقة فى الأصل من دعوة بالغة الاحترام أطلقها الرئيس السيسى قبل ما يزيد على عام ونصف العام- لا تعنى نفس الشىء للجميع، بل ليست مبالغة لو قلنا إن كلاً منا يفسرها بطريقته، فهناك من يراها دعوة إلى مزيد من إقحام رجال الدين فى حياتنا، وفرض سطوتهم وسيطرتهم الدنيوية على حيواتنا فى الدنيا والآخرة.
وهناك من يراها فتح باب لدخول الجميع فى التفسير والاجتهاد، وفتح أبواب النقاش والجدال على مصاريعها فى أمور الدين والدنيا. ومنهم يراها عملية إحلال وتبديل، حيث عزل الشيخ فلان من هذا المنصب وتنصيب الشيخ علان بديلاً عنه وذلك ليبدأ صفحة جديدة من إنجازات الحلال والحرام، وتجديد خطاب دخول الحمام بالرجل اليمين أم الشمال. ومنهم من اعتقد أن تجديد الخطاب الدينى دعوة تأتى فى أعقاب فضح مبين وكشف أكيد لمصائب وكوارث وموبقات خلفتها جماعات الاتجار بالدين والنصب باسم الحلال والحرام واستغلال فقر الناس الفكرى والمادى للسيطرة على أدمغتهم والترويج لثقافة رجعية متخلفة باسم الدين. وكشف الشهر الفضيل عن جوانب عدة من الالتباس والتشابك فى هذا المفهوم بطرق عدة. برنامج إذاعى روج له القائمون عليه باعتباره صفحة جديدة مشرقة ومتنورة من التناول الدينى فى حياتنا صال وجال فى إحدى حلقاته حول سؤال أرسله مستمع يسأل فيه إن كان يجب على الزوج أن يدفع زكاة الفطر عن كل زوجاته أم الزوجة الأولى فقط. وبدلاً من أن يكسر البرنامج الراديو على دماغ السائل الذى يعيش فى عصر غير العصر، ويفرض سؤاله الذى ربما يمثل حالة فى وسط 50 مليون حالة همهم أكل العيش والتعليم والصحة وغيرها من الخيبات القوية والثقيلة التى تحيطنا وتخنقنا وتطبق على رقابنا صال المذيع وضيفه وجالوا فى واجب الزوج تجاه الزوجات والفرق بين واجبات الأولى والثانية والثالثة.
وفى برنامج آخر، تفرغ الشيخان المتنوران من أصحاب الشهرة الدينية الواسعة فى السنوات القليلة الماضية للسخرية والتنكيت على النساء والفتيات اللاتى تسول لهن أنفسهن أن يرتدين «المشخلع» و«المدندش» وكأنهن فى فضاء عام لا رجال فيه. صحيح إن الشيخين استخدما ألفاظاً حديثة مثل «الاسترتش» و«الفيزون» وغيرهما ربما كنوع من أنواع التجديد، لكن يظل الحديث واضعاً المرأة فى خانة السلعة المتعة التى يجب تخبئتها أو تعريتها بحسب الحاجة. وفى إعلان السيدة منى عبدالغنى حيث تحثنا على أن نحرز الدرجة النهائية فى امتحان الزكاة لنفاخر بأننا أنجزنا 8 من 8، أود أن أعرف المعنى الذى يحمله هذا الإعلان، وماهية الحث الذى يحمله سؤال «أنا جبت 8 من 8» وكأنها على وشك تقديم ملزمة تضمن لنا الدرجة النهائية فى الامتحان الذى سيتيح للناجح دخول الجنة، ويؤهل الراسب لأن يتم شى لحمه فى نار جهنم. هذا الإعلان هو عودة فجة لتشيىء الدين وتحويره إلى تجارة ونزع محتواه الروحانى عنه، شأنه فى ذلك شأن الخطوة التى تحسب بعشرة آلاف لصاحبها، والطريق الطويل الذى يسلكه المصلى للمسجد فيضاف إلى رصيده 38 ألف خطوة، والركعة التى يتم حسابها بألف، وكأن العلاقة بين العبد وربه يتم حسابها بالورقة والقلم والآلة الحاسبة. حتى أخبار العيد لم تخلُ من «تجديد» للخطاب الدينى، فدار الإفتاء المصرية أتحفتنا بخبر فى أول أيام العيد يقول إن «قلة الوازع الدينى فى نفوس الكثيرين جعلت بعض الشباب، يتعرضون للنساء فى الشوارع، ويطاردوهن، دون مراعاة للأخلاقيات»، مؤكدة أن «هؤلاء هم أبعد الناس عن رسول الله يوم القيامة». والحقيقة كم كنت أود أن تذكر دار الإفتاء جملة أو عبارة أو حتى كلمة عن التربية. فالجميع يتشدق بالوازع الدينى الذى جعل مصر ذات مظهر غارق فى التدين. والجميع يتجاهل جوهر مصر الغارق فى شىء أبعد ما يكون عن التدين، لأنه أبعد ما يكون عن التربية والأخلاق والسلوكيات.
ويوم محا المجتمع المصرى كلمات مثل «عيب» و«مايصحش»، واكتفت بكلمات مثل «حرام» و«مكروه» و«مش هتورد على جنة» و«هيتشوى فى نار جهنم»، ضربتنا شيزوفرينيا خطاب دينى مهووس بالحرام ولا يلتفت للعيب من قريب أو بعيد. فطالما الأخت منتقبة، فكل ما يصدر عنها يؤدى إلى الجنة. وطالما اللحية واضحة والزبيبة بارزة، فكل ما يصدر عن صاحبهما يؤهله لمرتبة الشيخ. وإذا أضفنا إلى كل ذلك مأساة الإنكار والترحيل وإلقاء الاتهامات فى ملاعب الغير، تكون المصيبة قد أصبحت مكتملة الأركان. فكلما وقع تفجير إرهابى ترتكبه جماعة مارقة تحت شعار الجهاد أو رفعة الإسلام أو عقاب الكافرين، يبادر البعض على متن «فيس بوك» و«تويتر» أو أثير التليفزيون والإذاعة إلى نفى التهمة عن الخطاب الدينى ونسبها إلى المؤامرة الغربية والخطة الصهيوليبرالية. قليلون فقط من يعترفون أن القتل والذبح وإباحة الدماء تحت راية «الله أكبر» واردة فى مناهجنا ومذكورة فى الكثير من الخطب الدينية ومنصوص عليها أو مثلها فى أحاديث دعاة ومشايخ، حتى ولو بالتلميح. وللعلم فإن طريق ذبح وتكفير من يختلفون عنا يبدأ باعتبار هذا مواطناً منقوص الحقوق لأنه على غير دين الأغلبية، والتعامل مع ذاك باعتباره لن يرد على جنة لأن خانة الديانة فى البطاقة لا تروق لى.
تجديد الخطاب الدينى لم يبدأ بعد.
نقلا عن الوطن