لا يختلف اثنان على مدى دموية الإرهاب، ممثلاً فى تنظيم «داعش»، الذى تفنن فى اختلاق أنواع جديدة من الموت عن طريق الحرق والذبح والتمثيل بالجثث، وتنفيذ عملياته الانتحارية المتنوعة فى مختلف عواصم العالم، لكن لم يكن لأحد أن يتخيل أن يصل توحش هذا التنظيم الإرهابى إلى ضرب المسلمين كافة فى قلب مقدساتهم الدينية من خلال استهداف المدينة المنورة وعلى بعد أمتار قليلة من قبر سيد الخلق والروضة الشريفة المكتوب عليها قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى».
بكل قبح وجرأة، علا صوت التفجير الانتحارى فوق روضة النبى، واهتز عرش السماء من هذا الاعتداء السافر على مشاعر المسلمين فى شهر فضيل اختاره الله أن يكون شهر عبادة وتقرب من الله، واختاره أعداؤه أن يكون شهر قتل وتفجيرات.
إن العملية الإرهابية التى شهدتها المدينة المنورة تختلف عن كل سابقاتها، سواء تلك التى تم ارتكابها فى جدة والقطيف فى المملكة السعودية، أو الكويت أو العراق أو تركيا، أو أورلاندو الأمريكية، وهى كلها عمليات إرهابية اختار التنظيم شهر العبادة والمغفرة لتنفيذها، ضارباً عرض الحائط بقدسية هذا الشهر. فالتغير النوعى فى المكان باستهداف مسجد الرسول يوحى أن الإرهاب بات مرتبكاً وبدأ يتخبط حينما استشعر الخطر بعدما تم تضييق الخناق عليه فى سوريا والعراق وكثرت التحالفات ضده، مما أفقده بوصلته التى سيفقد معها ما بقى له من حيل وخطابات يستعملها من أجل التلاعب بعقول بعض الجهلة والبسطاء والمغيبين ممن اختلطت عليهم المفاهيم ووقعوا فريسة لأفكار متشددة وشاذة بعدما تم تزيينها بلبوس الدين.
إن استهداف المدينة المنورة، وعلى بعد أمتار من مسجد رسول الأمة، قد عرى هذا الفكر الداعشى والفكر الإرهابى الذى تسيد وتجبر وأصابه عماء الغرور لدرجة الاعتداء على مقدسات المسلمين. وربما بهذا العدوان الغاشم يكون تنظيم داعش قد طرق آخر مسمار فى نعشه، بعد أن لم يعد له أن يقنع أحداً أن ما يدافع عنه هو الدين الإسلامى. فلا يمكن لمن يستهدف مقدسات المسلمين أن يكون مدافعاً وحامياً لدينهم. ولا يمكن لمن يخطط لتفجير آلاف المصلين أن يتستر وراء شعار «تطبيق الشريعة»، التى ليست سوى غطاء لممارسة ساديته وتنفيذ معتقداته الشيطانية، التى تحلل له قتل وإيذاء وترويع ليس فقط سكان المدينة وزائرى مسجد الرسول، ولكن كل المسلمين فى كل مكان.
أما وأن يبرر الإرهاب استهدافه للمملكة السعودية بأن هدفه هو توجيه ضربة مؤلمة لاقتصادها فى موسم عمرة العشر الأواخر من رمضان وقبيل أيام قليلة من زحمة موسم الحج، فذلك محض افتراء، وإلا لكانت حادثة مينا، العام الماضى، قد أثرت على أعداد المعتمرين فى موسم رمضان هذه السنة. فروحانية المكان ورمزيته عند ضيوفه أكبر من خوفهم من الموت، التى فى جميع الحالات يتمنونها فى ذلك المكان الطاهر. كما أنه لا يمكن للإرهاب أن يبرر جريمته بأن المستهدف هو دولة معينة، فالمدينة المنورة ليست ملكاً للمملكة السعودية وحدها، بل هى ملك لكل المسلمين. أما إذا كان الهدف هو النفخ أكثر على نار الطائفية، فكلنا أمل أن يتم التعامل مع هذا الحادث الإرهابى بالكثير من العقلانية والحذر حتى لا يكون منطلقاً لحرب قذرة لا إنسانية فيها، ولا مقدسات.
يريد الإرهاب من خلال عمليته القذرة أن يوقع المسلمين بعضهم فى بعض، وأن يشرذم الأمة الإسلامية أكثر وتشتد الحروب فيما بينها وكل طائفة تتهم الأخرى وكل واحدة تنتقم من الأخرى، ما دام الإرهاب لا يقتات إلا من الصراعات والحروب. كما أن «داعش» أراد أن يثبت لنفسه وللعالم أنه حاضر وقوى ويمكن أن ينفذ أكثر من عملية فى نفس الوقت، ويمكن أن يستهدف من لم يتجرأ عليه أحد من قبله، لكن الواقع يقول إن هذا التنظيم هو قمة فى الجبن والانكسار وأنه على حافة الانهيار، وما الأخطاء والعشوائية التى بدأ يتعامل بها إلا دليل على أنه أصبح يلعب آخر أوراقه بمعادلة «خاسر/خاسر».
«داعش» خسر معركته، وإن كان يتطلب سقوطه النهائى بعض الوقت، لكن ما يجب التركيز عليه هو «ما بعد داعش» من خلال تحليل هذا الفكر الإرهابى ورصد الأسباب التى أدت إلى تفاقمه، والحيلولة دون إعادة إنتاجها، وعلى رأسها الطائفية المقيتة، وأيضا حالة الفوضى والحروب فى المنطقة التى أدت إلى المزيد من تجاذبات القوى الإقليمية والدولية مما أدى إلى ارتكاب أخطاء جسيمة بات معها العالم أكثر شراسة فى الدفاع عن مصالحه، وأقل اهتماماً فى مراعاته لأمن واستقرار الأوطان والشعوب، خاصة أن من صنع واستخدم الإرهاب لتنفيذ أجنداته، لم يعد قادراً على احتوائه والسيطرة عليه، بعدما أصبح لهذا الأخير أيضاً مخططاته وحلمه بالسلطة وتسيد العالم.
«داعش» سوف ينتهى كما انتهت قبله تنظيمات إرهابية بمسميات مختلفة، وربما ستظهر بعدها تنظيمات إرهابية أخرى بمسميات جديدة ربما أكثر تشدداً من سابقاتها، ما دام الفكر الذى يؤثر فى كل هذه التنظيمات قائماً، فكر سيد قطب الذى يشكل المرجع الفكرى لكل التنظيمات الإرهابية، مما يستدعى من كل الأنظمة والمؤسسات الدينية العربية تحمل مسئوليتها فى القضاء على هذا الفكر الدموى وترسيخ فكر دينى مبنى على الاعتدال والتسامح.
نقلا عن الوطن