أهنئ إخوتنا المسلمين فى «مِصر» و«الشرق الأوسط» و«العالم» بـ«عيد الفطر» الذى احتُفل به قبل أيام قليلة، متمنيًا للجميع السلام والهدوء، ولبلادنا كل عزة ورفعة وأمن وسلام. كل عام وجميعكم بخير.
تحدثنا فى المقالة السابقة عن ولاية كل من «صالح بن على بن عبدالله العباسى» و«أبى عَون عبدالملك بن يزيد» الثانية لـ«مِصر»، وأشرنا إلى الأحداث التى مرت بـ«البابا خائيل» وأنبا «مُويسِيس» ثم نياحة كل منهما بعد أن خدما الشعب بأمانة، ونالا كثيرًا من الآلام والضيقات. وفى ذلك الزمان، تولى الخليفة «أبوجعفر المنصور» أمر الخلافة بعد موت أخيه «أبى العباس عبدالله» الذى عَهِد له بها قبل موته.
الخليفة أبوجعفر المنصور (١٣٦-١٥٨هـ) (٧٥٤-٧٧٥م)
هو ثانى خلفاء الدولة العباسية، ويُعد أقوى خلفائها، واسمه «أبوجعفر عبدالله بن مُحمد بن على بن عبدالله بن عباس»، ومع بَدء حكم الدولة العباسية، انتقل «أبوجعفر» مع أخيه الخليفة «أبى العباس» إلى «الكوفة» فكان له العون والعضد فى الحكم. وفى عام ١٣٦هـ (٧٥٤م)، عندما كان «أبوالجعفر» فى «الحجاز» أميرًا على الحَج، وصله خبر موت أخيه الخليفة «أبى العباس»، وأن أمور الخلافة قد آلت إليه، فعاد سريعًا وبدأ الإمساك بمقاليد الحكم ولُقب بـ«المنصور».
ولم تكُن إدارة شُؤون الحكم بالأمر السهل، إذ إن الدولة العباسية كانت ماتزال حديثة العهد، ولم تتثبت بعد. وقد اعترض «المنصور» عديد من الصعاب الداخلية والخارجية، إلا أنه تغلب عليها بالحزم وما يملِكه من مهارة وذكاء جعلاه أقوى خلفاء الدولة العباسية، ولذلك، اعتبره المؤرخون المؤسس الحقيقى للدولة العباسية، فقد شيد دولة امتدت قرونًا طويلة، وهو الذى سن السُّنن وأرسى السياسة واخترع الأشياء، وسار أبناؤه الخلفاء من بعده على مسيرته. وقد نال «المنصور» شهرة واسعة فى الشرق والغرب بسبب حُسن سياسته وبُعد نظره. فقد استطاع فى وقت قصير إخماد الثورات التى اعترضته من الداخل والخارج، ومن بعدها اهتم ببناء الدولة وتثبيتها فقام بالتشييد والتعمير وتنظيم اقتصادها وأحوالها، فاستتب بها الأمن ونُظّمت شُؤون الدواوين. وكان يُشهد له بعنايته الشديدة ودقته المتناهية فى اختيار وزرائه ومعاونيه وحاشيته. كذلك اهتم بالجيش وتسليحه تسليحًا جيدًّا، وقرّب إليه العلماء والأُدباء. وقد استطاع «المنصور» أن يجعل ابنه وليًا للعهد من بعده بدلًا من ابن عمه «عيسى بن موسى».
ومن الثوْرات والفتن الداخلية التى قامت عليهما ثورة عمه «عبدالله بن على» عام ١٣٧هـ (٧٥٥م) الذى كان واليًا على «سوريا»، فخرج إليه «أبومسلم الخُراسانى» وانتصر عليه، فهرب «عبدالله» إلى أخيه «سليمان بن على» الذى كان والى «البصرة» آنذاك. وعندما علِم الخليفة «أبوجعفر المنصور» استحضره وأمر بحبسه حتى مات فى السجن بعد قرابة عشَرة أعوام. ولم يكَد العام يمر حتى سعى «المنصور» إلى التخلص من «أبى مسلم الخُراسانى»، فاستطاع القضاء عليه وقتله بالحيلة، وولّى من بعده «أبا داوُد خالد بن إبراهيم» على «خُراسان». وقد ثار على ذلك الوالى بعض من جنوده فساروا إليه ووصلوا إلى داره، وعندما رآهم أخذ ينادى على أصحابه، وبينما هو كذلك، وقع من أعلى داره فانكسر ظهره ومات، فولى «أبوجعفر» مكانه «عبدالجبار بن عبد الرحمن الأَزدى».
وفى عام ١٤١هـ (٧٥٨م)، قامت ثورة «الراوندية» ـ وهم فئة من أهل «خُراسان» يؤمنون بتناسخ الأرواح قد زعموا أن روح «آدم» حلت فى زعيمهم، وأن ربهم الذى يهب لهم الطعام والشراب هو «أبوجعفر المنصور»!! وحضروا إلى قصر «أبى جعفر»، وأخذوا فى الطوَفان به، فقام «المنصور» بإلقاء القبض على زعمائهم، فثاروا وهجموا على السجن وأخرجوهم منه، ثم دارت معركة كاد أن يُقتل فيها الخليفة، إلى أن جاء الجيش وأخمد الثورة.
وفى عام ١٤٤هـ (٧٥٨م)، سار «عبدالجبار بن عبدالرحمن الأَزدى» والى «خُراسان» سيرة رديئة أغضبت الخليفة، فأرسل إليه أحد قواده وابنه اللذين ما إن اقتربا من البلاد حتى قام أهلها بالثورة على الوالى وتسليمه هو ومن معه إلى رسولى الخليفة ثم قُتل لديه. كما أخمد ثورة أخرى فى «طَبَرِسْتان»، وقضى على ثورة «العَلَويين» فى عام ١٤٥هـ (٧٦٣م). وفى الخارج، قامت عدة ثوْرات فى «الأندلس» و«أفريقيا» و«أرمينيا» و«فارس» و«بلاد السند» واستطاع إخمادها جميعها ما خلا «الأندلس».
بدأ الخليفة «أبوجعفر المنصور» فى توجيه أعماله وجُهوده فى تنظيم أمور الدولة وشُؤونها فأخذ يضع أفضل أساليب الإدارة، ويُصْلح ما خرَب فى الحُروب والغارات، وكان يجول بنفسه فى أرجاء البلاد ويُشرف على التعمير والتجديد. ثم أعاد بناء «مالطا» وأعاد تحصين «البصرة» و«الكوفة»، وكذلك أحصى السكان فى أنحاء الدولة، ونظَّم الضرائب وكان حريصًا على أموال البلاد حرصًا شديدًا حتى اتُّهم بالبخل والشح، وفى هذا قصة لطيفة حدثت بين الخليفة والشاعر «الأصمعى»:
كان من عادة الخلفاء أن يقدموا الأموال والهدايا للشعراء. فلجأ الخليفة «أبوجعفر» إلى حيلة تجعله لا يقدم للشعراء مالًا، فأصدر أمرًا بأن من يأتيه بقصيدة من بنات أفكاره يأخذ وزن ما كتب عليها ذهبًا! فأسرع الشعراء إلى قصر الخليفة ليَقرِضوا شعرهم أمامه، إلا أنه ما يكاد ينتهى أحدهم من إلقاء قصيدته حتى يُخبره الخليفة أنه قد سمِعها قبلًا وأنها ليست له ثم يعيد الشعر عليه. وبعد ذلك ينادى أحد الغلمان بقصره ويسأله عن القصيدة فيجيبه بأنه يعرفها ويعيدها عليهم، ثم ينادى جارية لديه فيكرر سؤاله عن القصيدة فتخبره بأنها تعرفها وتسرُدها عليهم، وحينئذ يُدهش الشاعر ويكاد أن يُجن مما يحدث، فهو قد وضع قصيدته البارحة واليوم يجد من يلقونها عليه!!
أما سر ذلك الأمر، فكان يكمن فى قدرة الخليفة على حفظ الكلمات بعد أن يسمعها مرة واحدة، وكان غلامه يحفظها من بعد سماعها مرتين، أما الجارية فكانت من بعد ثلاث. وبذلك عندما يقول الشاعر قصيدته مرة واحدة يكون الخليفة قد حفظها فيكررها عليه، ثم ينادى غلامه الذى يكون قد سمعها مرتين فيلقيها عليهم، ومن بعده الجارية التى تكون قد سمِعتها ثلاث مرات فتردد كلماتها عليهم. واغتم الشعراء لا يدرون السر حتى مر بهم الشاعر «الأصمعى»، وكان عالمًا فى اللغة، وقرر أن يساعدهم عندما رأى ما وصلوا إليه من بؤس الحال. وفى الصباح، تنكر «الأصمعى» فى زى البدو وطلب لقاء الخليفة فسمح له، وعنما التقاه قال الشاعر «لأبى جعفر»: لقد سمعتُ أنك تعطى على الشعر وزن ما يُكتب عليه ذهبًا. فقال له الخليفة: هاتِ ما عندك. فألقى عليه «الأصمعى» قصيدة مطلعها:
صَوتُ صَفِيرِ الْبُلْبُلِ هَيجَ قَلْبِى الثَّمِلِ
الْمَاءُ وَالزَّهْرُ مَعًا مَعَ زَهرٍ لَحْظِ الْمُوقَلِ
وعند انتهاء الشاعر من إلقاء قصيدته، لم يستطِع الخليفة أن يكررها لصُعوبتها وتَكرار أحرفها، وكذلك الغلام والجارية. فلم يجد «أبوجعفر» إلا أن يمنح «الأصمعى» الذهب، فطلب إليه أن يُحضر ما كتب عليه قصيدته ليُعطيه وزنها ذهبًا. فقال الأصمعى: لقد ورثتُ لوح رخامٍ عن أبى لا يحمله إلا أربعة من جُنودك، فأمر الخليفة بإحضاره، فأخذ بوزنه كل مال الخزينة. وعند مغادرة «الأصمعى»، طلب الوزير من الخليفة أن يوقفه وقال له إنه «الأصمعى»!! فطلب الخليفة منه أن يُزيح اللثام عن وجهه، وعندما رفعه إذا هو «الأصمعى». فقال له: أتفعل هذا معى؟ أعِد المال إلى الخزانة، فقال «الأصمعى»: لا أُعيده إلا بشرط: أن تمنح الشعراء مكافآتهم. فأجاب الخليفة طلبه وأمر بالمكافآت، وأعاد «الأصمعى» الأموال.
و... وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى...!
* الأسقف العام رئيس المركز
الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع