بقلم يوسف سيدهم
قراء في ملف الأمور المسكوت عنها(593)
قرار ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني بإجراء استفتاء عام في المملكة المتحدة حول بقاء المملكة ضمن المجموعة الأوروبية أو خروجها منها يمكن أن يوصف بأنه قراركارثي حركته نوازع سياسية انتخابية افتقرت إلي الحنكة والحصانة وحسابات المكاسب والخسائر…فها هو كاميرون يعترف بأنه نتيجة الاستفتاء التي جاءت بأغلبية 52% تؤيد الخروج من المجموعة الأوروبية يجب احترامها ولكنه لن يكون ربان السفينة الذي يقودها في هذا الاتجاه…إذا فعلي المستوي الشخصي أعلن كاميرون استقالته من منصبه إيذانا بنهاية حياته السياسية باعتباره كان من أشد المؤيدين لبقاء بلاده ضمن المجموعة.لكن رحيل كاميرون ليس هو فصل الختام في قضية طلاق المملكة والمجموعة,فتداعيات الاستفتاءالكارثي ماتزال تتلاحق وتتردد أصداؤها في المملكة المتحدة والمجموعة الأوروبية وأسواق المال والأعمال والتجارة والصناعة في العالم كله مصحوبة بتوجسات خطيرة إزاء النتائج المترتبة عليه.
توقفت أمام تعقيب توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق علي نتيجة الاستفتاء حين قال:…لقد كان تصويتا احتجاجيا أكثر منه تصويت لتقرير المصير… في إشارة إلي أن الأغلبية التي صوتت للخروج من المجموعة الأوروبية عبرت عن ضيقها وقلقها واحتجاجها من اجتياح اللاجئين لدول المجموعة وسياسات الكوتة المتبعة لتوزيعهم علي أعضائها بحيث تتحمل كل دولة نصيبها منهم ومايترتب عليه من أعباء التسكين والإدماج والإضافة علي سوق العمل,هذا بخلاف المخاوف الناشئة عما يتكشف من تسلل المتطرفين والإرهابيين ضمن صفوف اللاجئين وما يحيق بدول المجموعة من عنف وإرهاب نتيجة ذلك.
إذا يجب أن نعترف أن الاستفتاءات وإن كانت من المعايير الديمقراطية لقياس إرادة المحكومين إلا أنها سلاح ذو حدين لأنها قد تطرح أمام العامة وغير المتخصصين أمورا ذات أبعاد عميقة ومعقدة لا قبل لهم بها فتكون النتيجة أن ينحازوا إلي اتجاهات سطحية انفعالية احتجاجية تشكل مواقفهم وهم غير مدركين لنتائجها الوخيمة علي المدي البعيد…أو كما وصف بعض المعلقين نتيجة الاستفتاء بأنبريطانيا أطلقت النار علي قدميها!!!…لماذا؟…لأن كل المؤشرات والتداعيات ورصد ردود الأفعال بعد الاستفتاء الكارثي تشير إلي تضرر للاقتصاد البريطاني والجنيه الإسترليني علاوة علي اهتزاز الموقف الراسخ للعاصمة البريطانية لندن كمركز للمؤسسات العالمية والمالية الضخمة وبوادر هجرة تلك المؤسسات لتتمركز في عواصم أوروبية بديلة تحسبا لنتائج مفاوضاتالطلاق بين المملكة والمجموعة…مع ما يحمله ذلك من تحريك لمبالغ هائلة وحجم أعمال مذهل وعشرات الآلاف من فرص العمل من خارج المملكة إلي داخل المجموعة…وطبعا كان لتلك الأنباء أصداؤها المدمرة علي أسواق المال حول العالم.
لكن فوق كل ذلك تنفجر القضية الأخطر والتي تستدعي مقولة:دع الفتنة نائمة…لعن الله من أيقظها!!..فقد فجرت نتيجة الاستفتاءالكارثي تداعيات لم يتصورها أشد المعارضين أو المتشائمين وهي ما نتابعها حاليا وتتكشف أبعادها واحدة تلو الأخري…والأمثلة علي ذلك هي:
**كشفت نتائج الاستفتاء عن الانقسام الجغرافي في المملكة المتحدة حيث صوتت الأغلبية في صف الخروج من المجموعة الأوروبية فيإنجلترا وفيويلز بينما صوتت الأغلبية في صف البقاء في المجموعة فيسكوتلندة وفي أيرلندة الشمالية…فكانت النتيجة التي لم نحسبها أو يتخيلها كاميرون هي إيقاظ النعرات الاستقلالية -بل والانفصالية-عن المملكة المتحدة في كل من سكوتلندة وأيرلندة الشمالية…وبعد أن كانت تلك النعرات ذات صبغة محلية قومية لم ترق أبدا إلي الانفصال-كما حدث في استفتاء سكوتلندة منذ نحو عامين- باتت هناك رغبات محمومة تصرخ من أجل الانفصال وتعلي معايير الارتباط بالمجموعة الأوروبية كمعايير مصالح مصيرية,بل وتبرئ نفسها من نتيجة الاستفتاء التي لا تعبر عنها.
**أيضا أظهرت نتائج الاستفتاء أن الأغلبية التي صوتت في صالح خروج المملكة من المجموعة تنتمي إلي المراحل العمرية المتقدمة في مقابل انحياز أغلبية المراحل العمرية الشابة إلي البقاء في المجموعة…وذلك في حد ذاته فجر موجة غضب احتجاجية رافضة لأن يكون القرار الانفعالي المتسرع لكبار السن بمثابة خطأ كارثي يجني ثماره ويدفع ثمنه الشباب في المستقبل دون أي ذنب جنوه!!
**ولا يمكننا أن نغفل أن تداعيات الاستفتاء الكارثي لم تسلم منها المجموعة الأوروبية ذاتها لأنها وجدت هوي لدي دعاة هدم الوحدة الأوروبية داخل دول المجموعة…وذلك تحول مرعب لكل من يدرك ثقل وأهمية المجموعة في النظام العالمي-مهما كانت مشاكلها-كمركز ثقل سياسي واقتصادي وكنموذج تاريخي رائع انبثق بعد الحرب العالمية الثانية لكيفية إذابة الفوارق بين الشعوب والقوميات المختلفة ووضع كافة المعايير والتقنيات واللوائح والقوانين التي تصهرها في وعاء واحد قوي فاعل ومؤثر دون المساس بالهوية أو اللغة أو الثقافة أو التاريخ لأي عضو من أعضاء المجموعة…وتلك مفارقة خطيرة طالما توقفت عندها لأقارن بين النجاح الأوروبي والفشل العربي في إدراك الوحدة…فها هي دول عديدة في المجموعة الأوروبية تتكلم لغات مختلفة ولها قوميات وثقافات وتاريخ مختلف-وقوانين ومواصفات وعملات مختلفة-استطاعت بإرادة فولاذية أن تصهر اختلافاتها وتطوعها وتوحدها لصالح كيانها الموحد القوي المؤثر في عالمنا…بينما نفشل في عالمنا العربي أن نحذو حذوها ونحن نتكلم لغة واحدة ولكن يبدو أن اللغة-للأسف-هي الشئ الوحيد المشترك بيننا!!!
ونعود إلي قضيتنا…قضيةالاستفتاء الكارثي…هل هناك أي فرصة للفكاك من نتائجه؟…هناك تكهنات كثيرة تتحدث عن صعوبة الطلاقبين المملكة والمجموعة وتتخذ سبيلا لذلك تصدير القضية إلي البرلمان البريطاني لإعادة نظرها باعتباره يمثل الشعب البريطاني…فهل يحمل لنا المستقبل شيئا من هذا القبيل؟…أم يترسخ الطلاق ويتشكل نظام أوروبي جديد؟