الأقباط متحدون - فاطمة الأزهري وطبيبها المسيحي!
أخر تحديث ٠٢:٤٦ | الأحد ١٠ يوليو ٢٠١٦ | ٣ أبيب ١٧٣٢ش | العدد ٣٩٨٥ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

فاطمة الأزهري وطبيبها المسيحي!

رباب كمال
رباب كمال

رباب كمال
طبيب مصري حتى النخاع ، ُولد في أسرة مسيحية في أواخر القرن التاسع عشر، كان مولعاً بالطب منذ نعومه أنامله ... أنامله التي أنقذت حياة آلاف المصريين .

اقتاده  شغفه العلمي لشد الترحال من مدينة المنصورة حيث ُولد،  حتى وصل إلى القاهرة حيث التحق بكلية الطب، التي كانت تعرف حينذاك بمدرسة القصر العيني الطبية.

كان الطبيب الـُهمام على موعد مع القدر، حين ضرب وباء الكوليرا أرض الكنانة في مطلع القرن العشرين.  الطبيب المصري  لبى نداء الإنسانية و الوطنية ،  حين كان في عامه الأخير في كلية الطب،  ليتطوع قبل تخرجه سنة  1902 و يواجه هذا الوباء القاتل في صعيد مصر الفقير .

كان الطبيب قاب قوسين أو أدني من التخرج وهو في عامه العشرين، لكنه ارتحل إلى قرية" موشا " بأسيوط ليؤدي مهمته الإنسانية والطبية، وهناك نجح الطبيب الناشئ في كشف مصدر الوباء وهو بئر ماء ملوث في منزل أحد الفلاحين، فأنقذ آلافاً مؤلفة  من الموت المحقق .

تحقق ُحلم الطبيب ونال شهادته الجامعية  وعُين في القصر العيني ، ومن ثم أنشأ عيادة ً خارجية للنساء والولادة وأشرف من خلالها على إجراء الولادات المتعسرة  وقام بإجراء ما يزيد عن ألفي ولادة منزلية .

سيرة الطبيب الحسنة  وصلت إلى مسامع  إمرأة  ُتدعى  فاطمة، وهي إبنة الشيخ مصطفى قشيشة الأزهري، وكانت فاطمة تعاني من حمل عسير وتنتظرها ولادة ٌ متعثرة، حملت جنينها وهنا ًعلى وهن وحملتها قدماها كذلك  للطبيب المسيحي ،  وكان بعد العسر يسراً، ووضعت  فاطمة مولودها في ديسمبر 1911.

عرفانا ًمنها بصنيع الطبيب ، قررت فاطمة  أن تطلق اسمه على مولودها ( حفيد الشيخ الأزهري )  ولم تأبه الأم  بعقيدة طبيبها ولا ديانته .

هذه الرواية ليست من نسيج  خيال الكاتبة ،  فنحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك من تاريخ الوطن، فالطبيب المصري المسيحي هو الدكتور نجيب محفوظ مؤسس طب النساء والولادة الحديث  في مصر ( 1882 – 1974)  وفاطمة بنت الأزهري التي أسمت مولودها تيمنا ً بطبيبها المسيحي هي والدة الروائي والأديب المصري نجيب محفوظ ( 1911- 2006. ) وهكذًا ُسمي نجيب الأديب تيمنا ً بنجيب الطبيب ولم تر الأم فاطمة ولا زوجها  الموظف البسيط عبد العزيز إبراهيم  أي غضاضة في تسمية مولودهما على إسم الطبيب المسيحي الذي أنقذ حياة الأم و طفلها .

لربما نروي هذه القصة على سبيل أن نذكر أنفسنا أن هناك نقاطا ًبيضاء في لوحة التطرف والطائفية القاتمة  ، لربما نرويها لـُنعلم أولادنا أن التعصب الديني يفسد قدرتنا على التعايش ، فوباء الكوليرا حين ضرب مصر لم يضرب المسلمين دون المسيحين ، والقضاء على الوباء عم بالصحة على الجميع على اختلاف عقائدهم و حين تطوع الطبيب المصري لإنقاذ الأرواح لم يهتم أحد بمعتقده ،  كما ُنعلم أولادنا أن امرأة ًمسلمة  من عامة الشعب  انكشفت على طبيب مسيحي  بالرغم من فتاوى كثيرة متعصبة في تلك الآونة ، بل و هي فتاوى امتدت حتى عصرنا الحالي ، و كان من آخرها فتوى دار الإفتاء المصرية  على صفحتها الرسمية  هذا  العام بوجوب أن  يكون الطبيب الذي يصرح بالإفطار في رمضان  مسلما ً ، و مرت الفتوى مرور الكرام بالرغم من أن الحالة الصحية للمريض  لابد  أن تكون شأنا ً طبيا ً و ليس فقهيا ً و لا علاقة لها بعقيدة الطبيب ، فأرادت دارالإفتاء المصرية أن يتقمص الطبيب دور الفقيه.

علينا أن نضع في اعتبارنا أن المصادفة  خدمت قصة  فاطمة بنت الشيخ الأزهري و طبيبها المسيحي، لأن أحداثها وقعت  في زمن شاع فيه  ظهور الأسماء التي استخدمها المصريون على اختلاف دياناتهم و طوائفهم لتسمية أولادهم، فشاعت بعض  الأسماء التي يستخدمها المسلم و المسيحي على حد سواء  ، لذا لم تجد فاطمة معضلة ً في إطلاق إسم طبيبها على مولودها ... فهل كان المصريون أكثر تسامحاً حينها ؟

لا يمكننا أن نجزم أن مصر كانت خالية ً من النعرات الطائفية ، فالتاريخ يخبرنا بعكس ذلك ، بل و إنه في ذات الفترة  التاريخية خاضت مصر توجهات فكرية  عززت التفرقة على أساس المعتقد . كانت مجلة المنار الإسلامية – مثلاً -  التي أسسها الشيخ رشيد رضا  عام 1898 منبرا ً لكثير من المقالات  التي أثارت إشكاليات الانقسام ما بين العقائد المختلفة و طرحت إشكالية : هل  الولاء للدين أم  الولاء للوطن؟ و كانت هنالك موجة سياسية  تؤسس  للوطنية التي  تنبثق  من الفكر الإسلامي و التي ُعرفت بإسم  القومية الإسلامية ، و هي الأفكار التي لم يتبناها الشيوخ فحسب و إنما تبناها  زعماء سياسيون و كان من أبرزهم مصطفى كامل (1874 – 1908 ) مؤسس الحزب الوطني و الذي كان مؤيدا  لبقاء مصر تحت جناح الخلافة . 
  

و  نشرت مجلة المنار في 20 مايو عام 1899 مقالا ً أعرب عن عدم الارتياح لتولي  المسيحيين للمناصب السياسية  في دولة الخلافة ، و كتب الشيخ رشيد رضا مقالا  بعنوان " زواج المسلم بغير المسلمة " ( ُنشر في 12 مايو 1909 ) و حذر فيه من الإقدام على الزواج بمسيحية خشية أن تجذب المرأة الرجل إلى دينها و نشرت ذات المجلة في ديسمبر 1933 مقالا  بعنوان " العقل و العلم لا يغنيان عن هداية الرسل"  ، جاء فيه أن المسيحية أقرب للوثنية التي لا سبيل لإنقاذ البشرية منها إلا عبر تأكيد صدق الإسلام ..وهذا على سبيل المثال لا الحصر

إذن فإن صورة مصر الوردية الخالية من الطائفية و التي يحاول البعض رسمها الآن ما هي إلا مدينة فاضلة لم تكن موجودة  بالفعل ، و بذرة الأصولية متجذرة في تاريخنا قبل الهجمة الوهابية ، فحين نعلق أسباب الطائفية و التشدد على شماعة الوهابية.. فنحن حينئذ  نغض البصر عن جذوره الحقيقية ،  لكن بالتأكيد  كانت البيئة الثقافية المصرية  في مطلع القرن العشرين تمر بتجربة شبه ليبرالية حاولت فيه أن تناطح الأفكارالأصولية و تعيد إرسالها إلى مكانها الذي تستحقه  في التاريخ ألا وهو الماضي السحيق ، و تلك هي معركة المواطنة و المدنية  التي  تقهقرت في الثلث الأخير من القرن العشرين حين أصبح التشدد الديني  ممولا ً بمليارات أمراء النفط في شبه الجزيرة العربية .

إذا ً لا يخلو زمان و لا مكان من تعصب أو تطرف ديني ، و تختلف درجاته و مدى انتشاره وفقا ً لعدة معايير من أهمها :  

 أولاً : دور القانون في التصدي للطائفية .. لا تجاهلها أو تبريرها بأنها حوادث فردية أو تم ارتكابها على يد مختل عقليا ً  .

ثانيا ً :  رد فعل المجتمع نفسه تجاه هذه الممارسات . فإن غض المجتمع البصر و لجأ لنفس التبريرات ، فهو يمهد الطريق لمزيد من الاعتداءات التي لن ترجف له جفن بسببها .

و هنا يكمن مربط الفرس ، خاصة ً في الاعتداءات الطائفية على المسيحيين و التي شهدتها مصر على مدار السنوات الماضية ، فدوما  يقلل الإعلام من شأنها على اعتبار أنها حوادث فردية  أو حوادث يرتكبها مختل عقليا ً و أنها  ليست جرائم  دينية طائفية ، و تلك هي  الصورة التي يطمئن لها العوام و يصدقونها ، و على صعيد آخر تتبنى الأجهزة الأمنية الإشراف على التهجير القسري  و لهذا تظل تلك الحوادت تتكرر ليس فقط لأن التطرف استشرى في البلاد و لكن لأن من أمن العقاب أساء الأدب ، و من أمن العقاب حرق الكنائس و طرد المواطنين من منازلهم و اعتدى على حرماتهم  .

حالة الإنكار التي نمر بها في مصر إزاء مواجهة مشكلة الطائفية ضد الأقليات الدينية  أصبحت مرضية ، و كل قلم أو صوت يعلو لمجابهة الأزمة الحقيقية ..ُ يتهم بأنه يثير الفتنة و يؤججها  .

 فمن يثير الفتنة تحديدًا؟ مرتكب الجريمة أم من يستنكرها و يرفضها و يحاربها على الملأ ! فهل نعتبر أن من حرق منازل الأقباط مؤخرا ً في كفر درويش لم يؤجج الفتنة الطائفية  و إنما من كشف الجريمة و كتب عنها هو من يعبث بوحدة  و مقدرات الوطن؟!

الخاتمة
نبحث دائما عن نماذج من دفتر حكايات الوطن تساعدنا على رأب الصدع في جدار الوحدة الوطنية المتصدع  و قصة الأم المسلمة  التي أسمت مولودها تيمنًا بطبيبها المسيحي واحدة من تلك القصص .

إن كنا سنروي قصة فاطمة الأزهري و طبيبها المسيحي على سبيل نشر واقعة إيجابية  لنعلم أولادنا من خلالها أن الدين حرية شخصية و الوطن يتسع للجميع و أن قيمة التعايش تبني الأوطان .. فلا بأس و هذا هو المطلوب فعلا ً ،  لكن إن كنا سنرويها على سبيل إنكار أزمة الطائفية في مصر و دفن رأس نعامة الوحدة الوطنية في رمال الطائفية المتحركة ، فنحن حينئذٍ نرتكب جريمة تزوير التاريخ و تغييب عقول عامة الناس .

إن إنكار الاعتداءات الطائفية في مصر لن يُحد من الأزمة بل يتسبب في مزيد من الاحتقان  ، فالأمر يبدو الآن  كما لو كنا ندير ظهرنا للبركان على اعتقاد أن تجاهله سوف يُوقف حطامه الصخري من الهطول على رؤوسنا .


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع