ليست الحُلكة فقط هى التى تميز لحظات ما قبل الفجر، فثمة أمران متناقضان تشهدهما تلك اللحظات، النوم العميق والأرق المتوتر، ويقال إن الأحلام التى نتذكرها تدور فيها أيضاً.. وبين النوم والأرق والحلم، نجد أنفسنا مضطرين لنوبة صحيان تفرضها دورة الحياة والتزامات يوم جديد.
وعلى أرض الواقع علينا أن ننفض عنا آثار نوم ليل طال، تغيرت خلاله الدنيا من حولنا، ليس فقط فى بلاد الحلم المخملى على ضفاف شواطئ المتوسط المقابلة التى خاضت بعزم معارك التحرر من سيطرة الدين ومؤسساته التقليدية المتراجعة على مقدراتها وعقلها، فكانت النهضة والثورة الصناعية وأرست منظومة حقوق الإنسان واعتمدت العقل والعمل والعدالة والحرية والمساواة مخرجاً، أو فى بلاد الثراء البترولى بامتداد الخليج، وبلاده التى كانت أكثر ذكاء وانتبهت إلى أن أحواض الزيت تحتها فى طريقها إلى الفراغ، فراحت تستحضر الخبرات لتؤسس لنسق جديد يطرق أبواب الصناعة والتطور حتى لا ترتد إلى عصور التصحر والفاقة، بل امتد التغير إلى بلاد جنوب شرق آسيا، ليس فقط فى دولها الكبرى الهند واليابان والصين، بل فى دولها الصغيرة، وقد أشرنا قبلاً إلى إحداها «سنغافورة» وهى مجموعة من الجزر لا تملك مقومات زراعية أو صناعية وظلت تحت الاحتلال الصينى حتى منتصف القرن العشرين، تتنازعها القوميات المتعددة، وتتوزع ملايينها الخمسة بين عشرات الأديان، لكنها انتبهت إلى ما يجمعها «الانتماء الوطنى»، وقررت بعد استقلالها أن تعظم هذا الانتماء، وفى أقل من عقدين تقفز لتحتل مكانة متقدمة بين أقوى اقتصادات العالم. وقد كتبت مرات أنه بات من الضرورى أن نتجه ببعثاتنا إلى تلك البلاد على غرار بعثات محمد على إلى الغرب، فقد نجد مفاتيح الخروج من نفقنا الممتد والمعتم، والتى لن تبتعد كثيراً عن إعادة هيكلة و«تثوير» التعليم والقانون والانضباط وتعظيم الانتماء الوطنى وفصل الدين عن الدولة، وليس الوطن، وإعادة الحياة لقيم العمل والإجادة والمهنية، والبشر قبل الحجر.
والتعليم يمثل القاطرة التى تقود قافلة الخروج إلى النهار، وتثويره يقضى بمواجهة الواقع الذى يئن من التخلف والانهيار، وليس ما حدث فى امتحانات الثانوية العامة إلا أحد تجليات هذا الانهيار، والمعضلة الحقيقية ليست فى وضع خطط وبرامج وجمع تصورات ونتائج دراسات وأبحاث وورش عمل ودفعها فى طريق التطبيق، بل فى أن كل العناصر التى تتصدى لهذه القضية هى فى حقيقتها منتج لهذا التعليم المتخلف، فانهيار التعليم بدأ منذ ستة عقود وربما أكثر، وهذا يعنى أن الخبراء والمتنفذين وكل من هم فى موقع، إلا قليلاً، هم نتاج هذه المنظومة الفاسدة، بالمعنى العلمى، ويكفى أن تفتش فى أرتال البحوث العلمية التى تحتشد بها جامعاتنا، وهى المسوغ الذى دفع بأصحابها إلى مواقعهم فى هيئات التدريس بها، لتكتشف بغير عناء انقطاعها عن صحيح البحث العلمى، كما يعرفه العالم وفق ضوابطه، وانعكس هذا على منتج هذه الجامعات التى لم تجد لها مكاناً فى التصنيف العلمى العالمى.
هل نملك شجاعة الإقرار بأن ما نمارسه فى إصلاح التعليم لا يعدو كونه «رتقاً» لثوب اهترأ؟، وهل نجرؤ على التعامل مع التعليم على غرار تعاملنا مع أندية كرة القدم، التى نستقدم لها مدربين أجانب، بل ولاعبين أجانب أيضاً، حتى نضمن لها موقعاً متقدماً فى مسابقات الدورى والكأس؟
هل يمكن دراسة استقدام مديرى جامعات وعمداء كليات «أجانب» ضمن بروتوكولات علمية مع جامعات العالم كمرحلة انتقالية؟
الثورة ليست تغيير أنظمة سياسية فقط، الثورة إنقاذ مقدرات وطن، وعقل الوطن فى مقدمتها.
نقلا عن الوطن