كتب - ميشيل حنا الحاج
بينما كان الصراع خلال معركتي الفلوجة ومنبج الساعيتين لتحرير مواقع جغرافية من سيطرة الدولة الاسلامية، ترد عليه القوات الداعشية بتفجيرات متتالية في بغداد، بدءا بتفجير غير مسبوق بحجمه في حي الكرادة، وبنوع آخر من المتفجرات المستخدمة وصفت بكونها c4 + امونيا، وما تبعه من تفجيرين آخرين في شمال بغداد أحدهما كان في منطقة بلد... دخلت على الخط الآن معركة الشاحنات الكبيرة، والتي وصفت الشاحنة المستخدمة هذه المرة، بكونها شاحنة تبريد كبرى وزنها 18 طنا، لم يكتف قائدها باستخدام الشاحنة لدهس جمهور المشاة الكثيف المتجمهر للاحتفال بالذكرى السنوية لانتصار الثورة الفرنسية المتمثل يومئذ بسقوط سجن الباستيل الباريسي، بل بادر أيضا لاطلاق النار على المشاة، من نافذة شاحنته التي عثر فيها بعد مقتله على يد الشرطة الفرنسية، على أسلحة نارية ثقيلة ومتفجرات، مما يوحي بتوجهه لتنفيذ عملية أكبر، اضافة لبشاعة ما استطاع تنفيذه فعلا من دهس 80 مواطنا بينهم 17 طفلا وجرح مائة آخرين، منهم 15 جريحا بحالة حرجة.. ولكن مقتله حال دون تنفيذ ما كان متبقيا من ارهاب على جدول أعماله.
ولكن هل دخل سلاح الشاحنات كعنصر جديد في المعركة الجارية بين الدول المنضوية في تحالفات تحارب الارهاب (ومنها فرنسا)، ودولة الارهاب الداعشية، سواء بعناصرها المنضوية رسميا تحت جناحها، أو أولئك المؤمنين بأفكارها، لكن لم ينضموا الى صفوفها، مكتفين بالتحول الى ما يسمونه بالذئاب المنفردة التي يشكل كل واحد منهم دولة اسلامية ارهابية قائمة بذاتها، وتعتمد مخططاتها الخاصة بها من تمويل وتركيب لمتفجرات يمكن شراء موادها الأولية من الصيدليات العادية؟
الواقع أن استخدام السيارات والشاحنات كوسائل لتنفيذ عمليات ارهابية، لم يكن عنصرا طارئا سواء على الدول العربية وخصوصا العراق وسوريا، أو على الساحة الفرنسية ذاتها. ففي الكثير من التفجيرات التي نفذت في العراق وفي سوريا، جرى استخدام السيارات أو الشاحنات فيها. فتملأ تلك السيارات أو الشاحنات بالمتفجرات، ثم تفجر عن بعد عندما يتعذر ايجاد انتحاري يفجر نفسه في وسط جمهرة من الناس. وعلى صعيد فرنسا ذاتها، هناك أكثر من سابقة على استخدام السيارات أو الشاحنات في عمليات ارهابية سعت الى قتل الأبرياء. وأذكر هنا بعضا من هذه العمليات:
1) في 21 كانون أول 2014، في مدينة ديجون الفرنسية، قام رجل يقود شاحنة، بدهس متعمد لآحد عشر شخصا وهو يصيح "الله وأكبر".
2) في 22 كانون أول 2014 ، في مدينة نانت الفرنسية أيضا، قام رجل يقود سيارة كبيرة الحجم، باقتحام سوق مزدحم بالمشترين لاحتياجاتهم لأعياد الميلاد "كريسماس"، ودهس عشرة مواطنين من المتجمهرين حالة بعضهم كانت حرجة. وذكر بعض شهود العيان، أنه كان يردد أثناء هجومه، عبارة "ألله أكبر".
وقبل يومين من هاتين الحادثتين، أي في العشرين من كانون أول 2014، وقع هجوم في احدى المدن الفرنسية، الا أنه كان هجوم من نوع آخر، استخدم فيه المهاجم مدية طعن بها ثلاثة من رجال الشرطة قبل التمكن من قتله. وكان الرجل يهتف خلال الهجوم قائلا "الله وأكبر".
فحادثة اليوم في نيس، لم تكن الأولى بين هذا النوع من الهجمات، لكنها كانت أبشعها في عدد الضحايا ونتائجها. ويقول شهود العيان، أن السائق كان يقود الشاحنة بسرعة 160 كيلومترا، وأنه قاد الشاحنة على امتداد ثلاثة آلاف متر (أي3 كلم) قبل أن يتمكن رجال الشرطة الفرنسية من قتله. وتأكيدا لتوجهه لقتل أكبر عدد ممكن من الضحايا، صعد السائق بشاحنته على رصيف الشارع حيث يسير المشاة، مما يفسر النسبة العالية من الضحايا، وخصوصا من الأطفال والنساء المحتفلين بعيد الثورة التي حملت للعالم مبادىء حقوق الانسان التي لا تعترف بها الدولة الاسلامية أي داعش، كما قال الرئيس الفرنسي أولاند في خطابه اثر ذاك الحادث المفجع، معلنا تمديد حالة الطوارىء في فرنسا لثلاثة أشهر أخرى، بعد أن كان قد أعلن قبل يومين فقط، عن توجهه الى رفعها منذ السادس والعشرين من الشهر الحالي، مرفقا اعلانه ذاك، قراره أيضا باستدعاء الاحتياطي من الجيش ورجال الأمن، لنشرهم في المواقع الفرنسية الحساسة ومنها الحدود الفرنسية مع الدول الأخرى، خصوصا وأن فرنسا قد ضربت من قبل بهجمة كبرى على مجلة تشارلي أبدو، وبهجمة أشد وأقسى في قلب باريس، في تشرين الثاني من العام الماضي، في مسرح باتو كلون، وحصد ذاك الهجوم 130 قتيلا.
والمعروف أن مدينة نيس المعروفة باسم الريفييرا الفرنسية، والقريبة من مدينة (امارة) موناكو الشهيرة، هي مدينة ساحلية ويقطن فيها نسبة عالية من المغاربة والجزائريين، علما أن الأوراق والوثائق التي ضبطت في الشاحنة المهاجمة، تشير بأن صاحبها فرنسي من أصل تونسي، دون التأكيد بعد بأن صاحب هذه الوثائق هو المهاجم، لاحتمال كون الشاحنة مسروقة، ولم يكن مالكها الحقيقي هو الذي يقودها أثناء الهجوم. وهذا أمر ستكشفه التحقيقات التي تولت أمرها دوائر مكافحة الارهاب الفرنسية، مما يرجح بأن التكييف الأولي لما حدث، هو كونه بدون تردد، عملا ارهابيا آخر من سلسلة العمليات الارهابية المتعددة التي ضربت فرنسا مؤخرا. ومن المبكر حتى الآن القول ما اذا كان الهجوم قد نفذته الدولة الاسلامية بتخطيط منها، كأن يكون المهاجم من المقاتلين الفرنسيين المنضوين في صفوفها، أم بمبادرة من أحد الذئاب المنفردة الفرنسيين، علما أنه من المعروف أن مجموعات داعش، تضم في صفوفها الفعلية، أكثر من الفي مقاتل فرنسي، أو ممن يحملون جوازات سفر فرنسية لكن من أصل عربي.
ومدينة نيس المعروفة بكونها مدينة سياحية يرتادها بكثافة السائحون من زوار فرنسا، تعرف أيضا بتوجه الكثير من سكانها الفرنسيين، لمؤازرة اليمين الفرنسي المتطرف الذي تقوده السيدة ماري لوبان التي تنافس أولاند على مقعد الرئاسة في معركة الانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة بعد قرابة العام. ويرجح بعض المراقبين أن هذه الحادثة، من المتوقع أن تزيد في شعبيتها، وتعزز موقعها في الانتخابات القادمة، مما قد ينعكس وبالا على عدة ملايين من الجاليات العربية الكبيرة اذا فازت السيدة لوبان، وخصوصا القادمين منهم من شمال افريقيا كالمغرب وتونس والجزائر، والمقيمين في فرنسا منذ زمن بعيد.
وقد يرى البعض أن هذه الضربة التي وجهت لمدينة نيس، رغم تلقي سكانها وزوارها بشاعة مصائبها وخسائرها، فان مصيبة قاسية مشابهة، قد أصابت أيضا بشكل خاص، تطلعات الرئيس أولاند في حظوظه للفوز بدورة رئاسية ثانية. وهذا يفسر، اضافة الى أسباب أخرى ومنها ازدياد العمليات الارهابية الموجهة ضد الفرنسيين، مبادرته لا لتمديد حالة الطوارىء فحسب، بل لتوجهه أيضا لاستدعاء الاحتياط في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. فبعد الهجمة الباريسية في نهايات العام الماضي، وقبلها غزوة تشارلي أبدو، كما يسميها الداعشيون، قام الرئيس الفرنسي بجولة على عدة عواصم غربية ودولية بما فيها واشنطن وموسكو، حاثا على التشدد في مقاومة الارهاب ومحاربته. ويرجح أن يلجأ الآن الى الدعوة للشروع بحرب حقيقية وجدية جدا ضد الدولة الاسلامية. فالحرب معها ليست حربا سهلة، وتحرير بعض المواقع الجغرافية من سطوتها، لا يعني أبدا اقتراب نهايتها. فالدولة الاسلامية لديها مخططيها الذين يلجأون لأسلوب الكر والفر، وتفعيل الهجمات المضادة القادمة من خلف المهاجم نتيجة استخدام الانفاق التي عرفت للمرة الأولى في حرب فيتنام، كما تستخدم نهج التفجيرات في مواقع الاكتظاظ البشري. ولكن الأهم من ذلك، أنه اذا كانت التحالفات القائمة، سواء الأميركية أو الروسية، تستخدم مساحة جغرافية محدودة ضمن الحدود العراقية والسورية والليبية، فان الدولة الاسلامية تخوض حربا في مساحة جغرافية أوسع كثيرا، لأنها تضرب أيضا في فرنسا وبلجيكا ودول أخرى عديدة....أنها مستعدة لأن تضرب في كل أنحاء العالم كلما أتيحت لها الفرصة ذلك.
ومن هنا بات من الضروري التعامل مع الدولة الاسلامية، أي داعش، بجدية أكبر. بل لا بد، ليس مجرد الاكتفاء بالتطلع الى مزيد من التنسيق بين موسكو وواشنطن كما هو حادث الآن في اجتماع موسكو الذي ضم بوتين، لافروف وجون كيري، بل المطلوب الآن، باسم الضحايا الذين سقطوا في الكرادة، وفي نيس، وفي حلب، وفي غيرها من المواقع التي ضربها الارهاب، وجوب توحيد التحالفات المتعددة، الروسية، الأميركية، الاسلامية، ذلك أن العالم يواجه عدوا خطرا، بل خطرا جدا. فلا يجوز بعد الآن الاستخفاف بقدرات الدولة الاسلامية، خصوصا وأنها تملك سلاحا أشد بطشا من سلاح الطائرات والصواريخ الأرضية والجوية التي تستخدمها التحالفات القائمة... أنه سلاح المناداة بأفكار دينية متشددة، تلقى للأسف صداها في عقول البعض، بسرعة أقوى وأكثر تأثيرا من سلاح كل الصواريخ والقذائف التي تستخدمها التحالفات المتعددة.
رجاء، كفاكم مزاحا مع الداعشيين، هكذا ينادي البعض، وأبدأوا جميعا مجتمعين، حربا جدية ضدهم، حربا لا ترحم ولا تتهاون، والا توجب عليكم اعداد مزيد من التوابيت والأكفان لدفن مزيد من الضحايا الذين سقطوا بالأمس في العراق وفي سوريا، وسقطوا اليوم في فرنسا، لكنهم قد يسقطون غدا في لندن وواشنطن، بل وفي موسكو أيضا.