لو امتد العمر بالمؤرخ «هيرودوت» وقرأ التحقيق الرائع الصادم المرعب الذى نشرته «الوطن» منذ عدة أيام عن النيل لشطب مقولته الخالدة «مصر هبة النيل» ليجعلها «مصر هبّبت النيل»!! لو قاده حظه التعس للتجول على شط النيل وشاهد جثث الحمير والجواميس النافقة تطفو على سطحه، ومخلفات المصانع السامة ترقد فى قاعه، والحشائش والطحالب ترعى على جانبيه، وكل ما تتصوره من جماد وحيوان وهوام يُرمى فى بطنه الذى جأر بالشكوى ولا من مجيب، من أسمنت وخرسانة وفضلات وروبابيكيا وصرف غير صحى وشاش وقطن ومخلفات عيادات ومستوصفات... إلخ، كوكتيل من القذارة والعفن الذى يشير إلى سلوكيات منحطة عشوائية وانعدام إحساس بالإنسان وبالجمال وبأقل مستلزمات النظافة التى لا علاقة لها بالفقر، بعد أن كان المصرى القديم من ضمن طقوسه الدينية أن يقسم ويتعهد بالحفاظ على النيل، ولكن المصرى المعاصر كما خان جده الفرعونى فى احترامه للمرأة وطاقته الإبداعية وتقديسه للعمل خانه أيضاً فى تقديس النيل فصار تلويث النيل! انتقل من التقديس إلى التلويث، ومن الاحترام إلى الإجرام، وإذا كان النحاس يُعرف بأنه موصل جيد للحرارة فإن النيل موصل جيد للحضارة! إنه النيل الذى وصفه الشاعر محمود حسن إسماعيل بأنه «واهب الخلد للزمان وساقى الحب والأغانى»، «مسافر زاده الخيال والسحر والعطر والظلال»، «شابت على أرضه الليالى وضيعت عمرها الجبال»، وغنّى له العندليب الأسمر: «يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا اسمر.. لولا سمارك جوه العين ما كانش نور».، وقال فيه أحمد شوقى على ضفاف حنجرة أم كلثوم:
من أى عهد فى القرى تتدفق.. وبأى كف فى المدائن تُغدق
ومن السماء نزلت أم فُجرت.. من عليا الجنان جداولاً تترقرق
كان هذا الغزل للنيل من أم كلثوم بالفصحى، لكن العامية العبقرية لم تبخل علينا أيضاً فى كلمات الغزل للنيل وبنفس الصوت لكوكب الشرق:
«شمس الأصيل دهّبت خوص النخيل يا نيل.. تحفة ومتصورة فى صحبتك يا جميل».
وأيضاً لم يبخل أمير شعر الفصحى أحمد شوقى على النيل بشعر العامية فقال على ضفاف حنجرة عبدالوهاب:
النيل نجاشى حليوة أسمر
عجب للونه دهب ومرمر
أرغوله فى إيده يسبّح لسيده
حياة بلدنا يا رب زيده
لو خرج هؤلاء من قبورهم ثانية، لانخرط شوقى فى البكاء وانتحر محمود حسن إسماعيل وانهارت أم كلثوم ولطم العندليب، فهل نستطيع أن نعتذر للنيل ونغنى للنيل مع عبدالوهاب:
سمعت فى شطك الجميل.. ما قالت الريح للنخيل
يسبّح الطير أم يغنى.. ويسكب الحب للخليل
وأغصُن تلك أم صبايا.. شربن من خمرة الأصيل
ثم ننسج قصص حبنا ونغنى معه عشاقاً ومغرمين لأحبتنا الحاضرين والغائبين
«إمتى الزمان يسمح يا جميل واقعد معاك على شط النيل».
نقلا عن الوطن