زمان كان سوق المؤلفات يمتلئ بكتب عن الخطب الجاهزة للجمعة والعيدين، كانت هذه الكتب تروج لدى خطباء المساجد، بعضهم كان يلجأ إلى الخطب المسجلة على شرائط كاسيت، خصوصاً للشيخ عبدالحميد كشك، ويحفظها عن ظهر قلب ويأتى لتسميعها فى صلاة الجمعة، وزارة الأوقاف لجأت مؤخراً إلى ما أطلقت عليه «الخطبة المطبوعة»، التى يتم توزيعها على خطباء المساجد، لتتم تلاوتها -بشكل موحد- على المنابر. قرار الأوقاف أثار ردود فعل متباينة ما بين مؤيد لهذا التوجه، فى ظل ما أصاب خطب الجمعة من عوار، وبعد أن أصبح كل من يعتلى المنبر يغرد بما شاء وشاء له الهوى، ومعارض للقرار يرى أن هذا الأمر لم يحدث فى مصر من قبل، وأنه يغل ويحاصر الخطيب عن الاشتباك مع القضايا التى تهم سامعيه فى الواقع المحلى الذى يعيشون فيه.
الملفت أن الجدل المحتدم حول هذا الموضوع يهمل ما ذهب إليه بعض الفقهاء من أن الخطبة ليست ركناً من أركان صلاة الجمعة، فالجمعة صلاة وليست خطبة، يقول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودى إلى الصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع»، فالجوهر هو الصلاة وليس الخطبة، ومدرك إحدى ركعتى الجمعة يكون مدركاً للصلاة كاملة، وقد اختلفت الآراء فى النظر إلى خطبة الجمعة ذاتها وهل هى فرض أم سنة؟ والأغلب أنها سنة عن النبى صلى الله عليه وسلم، وهى كما ذكرت ليست شرطاً للصلاة، إذ يمكن للمسلم أن يصلى الجمعة دون الاستماع إلى الخطبة، ولا تثريب عليه فى ذلك، ولست أدرى هل تعلم أن النبى عندما خطب الجمعة كان يخطبها بعد الصلاة أم لا؟ وظنى أن الأمر لم يكن يأخذ شكل الخطبة بالمفهوم المعاصر المتعارف عليه، بل شكل الحديث التربوى والتعليمى للمسلمين، وهو توجه لدى النبى صلى الله عليه وسلم كان يرتبط بصلاة الجمعة، كما ارتبط بغيرها، إذن النبى كان يخطب بعد الصلاة، لأن الصلاة هى الأصل، أو الفرض، والخطبة هى الفرع أو السنة، والترتيب الحالى الذى يجعل الخطبة قبل الصلاة هو بدعة ابتدعها المسلمون اللاحقون، حتى يحلوا مشكلة انفلات الكثيرين من الاستماع إلى الخطبة، لأنها ليست ركناً من أركان الجمعة.
يعنى ذلك أن الحديث عن خطبة الجمعة فى ترتيبها الطبيعى بعد الصلاة هو حديث عن سنة، والحديث عنها فى ترتيبها الحالى -قبل الصلاة- هو حديث عن بدعة، أما الجدل الدائر حول كونها مطبوعة مملاة، أم شفاهية مبتكرة، فهو حديث عابث، ومعذرة فى استخدام هذا التعبير، لأنها فى الحالتين ستأتى على نحو لا يحمل أى تجديد للخطاب الدينى، لأن من يكتب الخطبة سينهل من نفس المعين الذى ينهل منه كل شيوخ المنابر فى مصر، وهو المعين الذى تختلط فيه الحقائق بالأكاذيب، والعقلانى بالخرافى، ربما امتازت الخطبة المطبوعة عن غيرها بدرجة أعلى من الالتزام بالتوجيهات الرسمية، وذلك هو مدخل المهاجمين لها، ولكن فليريحوا بالهم، لأنها لن تأتى بجديد فى هذا السياق، وستكرر على الأسماع ما اعتاد المصريون على سماعه فى هذا المقام. المادة دائماً واحدة، والمادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم!
نقلا عن الوطن