1- لأنى من جيل المنفلوطى وجدول الضرب، وجفنه علَّم الغزل، وياللى كان يشجيك أنينى، وسلطنة الشيخ محمد رفعت وعبقرية جمال حمدان في المكان والزمان.. صار للكتاب عندى منزلة خاصة، ورغم زمن النت والتويتر والتوتر، مازلت أحتفى بالكتاب وأفرح بغلافه الملون وأضمه إلى صدرى. وقد اعتدت مطلع كل صيف إعادة ترتيب مكتبتى التي لازمتنى كظلى العمر كله. أحياناً أكتشف أن بعض الكتب لم أفتحها بعد لأن أعباء الحياة سرقتنى من حروفها المطبوعة، وأحياناً تصادفنى كتب اصفرت أوراقها من طول زمانها تأليفاً وسكناً بين رفوف المكتبة، ولأن الكتب أصدقاء أعزاء، يروق لى أن ألتقط واحداً من الكتب الموغلة في القدم وأتصفحه من جديد وأعرف أن الكتاب يؤلف مرتين، مرة من مؤلفه ومرة من قارئه، هذا الكتاب الذي انتخبته يحمل عنوان «المرأة ليست لعبة الرجل» والمؤلف هو سلامة موسى وتاريخ الإصدار عام 1955، أي منذ 61 عاماً، العنوان جرىء، خصوصاً في هذا الزمن المبكر جداً، لكن تزول الدهشة حين يكون الكاتب سلامة موسى.
2- سلامة موسى، كاتب تنويرى وكان يكفيه فقط هذا اللقب، وهو مفكر من طراز نادر، إنه يناقش القضايا الشائكة بمبضع الجراح وهدوئه، هو من جيل الكتّاب الذين حلموا بتغيير الواقع الاجتماعى مثلما حلم سيد عويس فيما بعد، وسلامة موسى من اكتشافات «على أمين» ودعاه للكتابة في أخبار اليوم، وقد اقتربت منه كثيراً عندما كنت أتردد على الدار للتدريب والتمرين أيام إسماعيل الحبروك، وقد تعلمت من سلامة موسى الجملة القصيرة والسؤال «السهم»، واشتريت معظم كتبه وكانت أولى لبِنات وجدانى ومازلت أذكر كتابه «عقلى وعقلك» وفيه يتحدث عن المهارات العقلية والاجتماعية المختلفة بين البشر، وكيف أنها من أسلحة نجاح الفرد، وعندما علمت أن سلامة موسى يحضر كل أسبوع مرة في جمعية الشبان المسيحية في شارع إبراهيم باشا حرصت على الذهاب والإصغاء لحواراته وكنت أول مرة أسمع عن «معان» جديدة كالتقدم والتحضر والاستنارة والتنوير، وكان ذلك منذ نصف قرن من الزمان ومازلت أرى أن النسيان احتوى هذا الكاتب العظيم الذي كانت سطوره تشعّ تنويراً للأذهان، وصادف تحديات كثيرة ولكنه كان يراهن على العقل المصرى.
3- «المرأة ليست لعبة الرجل» أحد مؤلفات سلامة موسى الذي يقول في مقدمته «ليس من حق أحد في الدنيا أن يقول للمرأة: عيشى في البيت طيلة عمرك، لا تختلطى بالمجتمع ولا تؤدّى عمل المحامى أو الطبيب أو الكيماوى أو الفيلسوف، لا تقصرى كل وقتك على الطبخ والكنس وولادة الأطفال، إن المرأة المصرية أرحب آفاقاً وأكثر اهتماماً من أن يستغرق المنزل كل حياتها»، قال الكاتب التنويرى هذا الرأى من أكثر من نصف قرن، قاله ضمن سلسلة كتب أطلق عليها «سلامة موسى للنشر والتوزيع، تراث من الكفاح الهادف». إن الإبحار في فكر قديم بطعم حديث هو مهمتى، حين أكتشف أن أصواتاً صادقة تنحاز للمرأة «الإنسان» ولا تبخس دورها الأنثوى ولا إنسانيتها أيضاً، صوت تنويرى كصوت سلامة موسى هو سوط على الأفكار الرجعية التي سجنت المرأة في البيت وتعيش بين أربعة جدران وتختبئ وراء الأبواب والشبابيك، بل كانت الشبابيك مشربيات مخرمة تتيح لها النظر إلى الشارع حين تلصق وجهها بخروم المشربية حتى ترى شيئاً من حركة الناس والأشياء وتحس أنها لاتزال حية أو أن لها من الحياة العامة جزءاً مهما صغر.
4- قالت لى مرة الكاتبة الكبيرة أمينة السعيد إنها تنوى أن تصدر عدداً خاصاً من «المصور» تطلق عليه «سلامة موسى: الاستنارة تبدأ بالمرأة»، ولكن ظروفاً سياسية حالت دون تنفيذ هذا الاقتراح، وقد رحل سلامة موسى عن عالمنا في 4 أغسطس عام 1958 ومن الممكن القول إنه رائد الاشتراكية المصرية ومن أول المروجين لأفكارها. إن أول صيحة لسلامة موسى وجهها للمرأة «لا تكونى لعبة نلعب بك نحن الرجال، نشترى تلك الملابس الزاهية والجواهر المشخشخة ونطالبك بتنعيم بشرتك وتزيين شعرك وكأن ليس لك في هذه الدنيا من سبب للحياة سوى أنك لعبتنا، نلعب بك ونلهو»، ثم يحرضها سلامة موسى على كرامتها: «أنت إنسان لك حق الحياة واقتحام التجارب البشرية وحق الإصابة والخطأ، أنت لست خادمة للرجل، تنجبين له الأطفال وتطبخين له الطعام وتغسلين له المرحاض»، ويرى سلامة موسى أن المرأة المصرية هي «إنسان بلا أخطار ولا حوادث» وأن الذي يربينا نحن الرجال هو الأخطار والحوادث، والمرأة الأوروبية، منتجة في الصناعة والزراعة والتجارة والتعليم وهى تصطدم بالدنيا وكوارثها وتجادل وتناقش، فهى لا تعدّ نفسها ريحانة الرجل لأنها مستقلة لها منهج وهدف في الحياة، إنها ليست لعبة الرجل.
5- يستشهد سلامة موسى بأفكار رفاعة الطهطاوى «الأزهرى عايش الفرنسيين في فرنسا» الذي يقول في كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين»، إياكم وبطالة النساء.. «فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق ويقرّبها من الفضيلة، وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهى مذمة عظيمة في حق النساء»، ثم يقارن سلامة موسى بين رفاعة الطهطاوى وقاسم أمين، فكلاهما عاش في باريس «ولكن قاسم أمين كان أنضج وأبصر في التفطن لمعانى الحضارة الأوروبية، ودعا إلى اختلاط المرأة بالمجتمع، تدرس شؤونه وتحيا الحياة المستقلة التي تمليها عليها شخصيتها»، ويروى سلامة موسى أنه في حديث للأستاذ الباقورى، وزير الأوقاف، بشأن زيارته للصين (عام 1955)، أن هناك «144 سيدة صينية يشغلن مناصب رئيسات للمحاكم» وهذا الخبر والتعليق لسلامة موسى «يسر المفكر الشرقى الذي فهم رحلة المرأة الصينية التي تولد لتخضع لأبويها فإذا تزوجت خضعت لحماتها، وكانت تخدر بوضع قدميها منذ الطفولة في حذاءين من حديد حتى لا تنمو فتستطيع المشى عليها، وتأتى الثورة الثقافية بفكر ماو تسى تونج فتعصف بالأفكار الرجعية والبالية وتهب المرأة الصينية من رقدتها».
6- من أفكار سلامة موسى التنويرية.. «قبل نصف قرن»:
- الزوجة التي تحب زوجها خير من الزوجة التي تحترمه.
- لن يسود الحب البيت إلا إذا كانت الزمالة تأخذ مكان الرياسة وليس في الدنيا إنسان يستحق أن يرأس زوجته.
- إن كل رجل نشأ في مجتمع انفصالى يعد ناقصاً في تربيته جاهلاً للجنس الآخر.
- ليس حضارياً أن يقال إن مكان المرأة هو البيت.
- من الإجحاف أن نقول للزوجة: الزمى بيتك وابقى معطلة طيلة النهار.
- هلموا نحو التمدن، إنه الأمل في الغد.
- التمدن هو حق المرأة في الحرية وواجبها في الإنتاج.
- في الشمال الأوروبى «وزارة للعائلة» ما أحوجنا إلى هذه المنظومة الإنسانية في بلدنا.
- لا تنفصلى عن المجتمع وإياك وثرثرة النسوة وراء المشربيات.
- إذا اشتبكت أنت في المجتمع، فإنك قد ترتفعين إلى العبقرية، فهى ليست حكراً على الرجل.
7- سلامة موسى: نبرة فلسفية في سطوع فكرة بعفوية تناول، حارب بقلمه صور التخلف والعبودية وانتصر للعقل وشجع المرأة على الاشتباك بالمجتمع لتحيا، واضح الفكرة على الدوام، واجه الاضطهاد كمفكر يهز الثوابت، مصرى الدماء قبطى الإيمان.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع