لدى عموم المصريين شعور متأصل بأنهم جاءوا إلى هذا الكوكب متعَبين من شيء ما، وأنهم في حاجة إلى استراحة.. ربما كان المصريون قبل خلقهم قد بذلوا جهدا ما في إنشاء شيء ما، لا نعرفه، ثم خلقهم الله مرهقين مستَهلَكين نافدي الصبر والطاقة، ففهموا بوعيهم أن حياتهم الدنيا استراحة مطولة.
والمدهش حقا أن بعضنا يقضي ما يشبه فترة النقاهة داخل هذه الاستراحة، وهي المستوى الأعمق من الشعور بالإجهاد غير المفسر ولا المبرر، وهؤلاء الناقهون الذين يستريحون من عناء الراحة في ظني أغلبية كاسحة في بلدنا هذا وفي وقتنا هذا.
والمؤسف أن تتراكم على الفئتين، المرهقين والناقهين، صروف الحياة وصعوباتها، فتضيف إلى عنائهم الوهمي عناءات حقيقية يصعب على الإنسان في الظرف الطبيعي تحملها، فما بالك بأن يكون هذا الإنسان مصريا، وهو ظرف استثنائي في ذاته؟!
لم يأت نجاح مسلسل جراند أوتيل من جودة العمل وحدها، ولا من عبقرية محمد ممدوح ولا وسامة عمرو يوسف ولا إعادة اكتشاف سوسن بدر، فأعمال جيدة لم تحقق ذات القدر من النجاح.
لكن جراند أوتيل قدم لحزب المستريحين من عناء الراحة ما يناسبهم.. صورة درامية مباشرة في رومانسيتها وبساطتها وجمالها وحتى في مغامراتها، وهذا هو سر الملاءمة.
وكذلك، وقياسا على ذلك، فنجاح مسلسل نيللي وشيريهان لم يأت بسبب طعامة دنيا وإيمي سمير غانم، ولا بسبب الصورة المبهجة التي قدمها المخرج أحمد الجندي، وإنما لأنه قدم الكوميديا والبهجة المباشرة، وهذا أيضا هو سر الملاءمة.
فالمشاهد المرهق ينأى بذهنه عن القيام بعمليات فكرية منطقية تنتج له من الأعمال الفنية خلقا إبداعا يستقل به كل مشاهد عن الآخر، على اعتبار أن الفن لا يؤتي نتائجه إلا عندما يختلط بتلك العمليات الفكرية التي يجريها مستهلك الفن.
لكن المستريحين يكرهون تناول الفن بهذه الطريقة المركبة، وهو بالنسبة لهم في صعوبة وتعقيد الفقرة السابقة على أذهانهم.
وقس على الفن ما شئت ترى الاستسهال هو الغالب، سواء من ناحية المنتج أو من ناحية المستهلك، وأيا كان موضوع الاستسهال نفسه.
نحن نفضل الغش من الامتحانات المسربة على الدراسة والتعلم والنجاح، ونفضل الرشوة التي نحصل عليها بلا جهد على الراتب الذي نجنيه بالعرق، ونفضل الحصول على التقدير على العمل على تحقيق هذا التقدير، ونرضاه في العموم دون وجه حق.
ونحن لا نجنح إلى هذه الاختيارات لأننا غشاشون أو فاسدون أو مدَّعون، وإنما لأنها جميعا الخيارات الأسهل، والتي لا تتضمن جهدا يخرجنا من حالة النقاهة والاستجمام التي نعيشها ماديا ومعنويا.
ودعوني أستبعد في هذا السياق أن يكون سعي المصري العام هو البساطة، فالحقيقة أننا نستبعد البسيط لصالح المعقد إذا كان المعقد أسهل، فنشتري الصالون المذهب الأغلى ثمنا والأعقد فنا والأثقل وزنا لأنه يحقق هدف الفشخرة بسهولة أكبر.
الأسوأ من ذلك كله هو نتيجته على الحياة العامة، فالذوق الأدنى يغلب الذوق الأرفع، والشائعة تغلب الحقيقة، والجهالة تغلب العلم، والخرافة تغلب المنطق، والظاهر يغلب الجوهر، والشخصي يغلب الموضوعي، ونداء "ريان يا فجل" يغلب سيمفونيات بيتهوفن وبرامز، لأن مؤشر الاختيار يتأرجح كل مرة نحو الأسهل.
سمعت ذات مرة نكتة عن مفتش دخل إلى فصل دراسي وأراد اختبار قدرة الطلاب على الإبداع، فطلب من كل طالب أن يقترح فكرة لاختراع، فقال طالب إنه يريد اختراع آلة تحل الواجب المدرسي بضغطة زر واحدة، وقال طالب ثان إنه يريد اختراع آلة تضغط الزر في الآلة التي فكر فيها زميله.
وهذه النكتة ليست في الحقيقة نكتة إذا استخدمتها في قراءة واقع الاستسهال والكسل الذهني الذي يحلو لنا أن ننتهجه، فأفضل ما يمكن أن يحلم به الناقهون المرهقون المستريحون من عقولهم وإنسانيتهم هو أن تكون لديهم آلات تقوم بأعمالهم العقلية، وأن تكون لديهم إلى جانبها آلات أخرى تضغط أزرار التشغيل في الآلات الأولى.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع