الأقباط متحدون - غموض حول الانقلاب التركي: هل كان انقلابا حقيقيا، أم انقلابا أردوغانيا على أردوغان؟
أخر تحديث ٠٠:٢٣ | الأحد ١٧ يوليو ٢٠١٦ | ١٠ أبيب ١٧٣٢ش | العدد ٣٩٩٢ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

غموض حول الانقلاب التركي: هل كان انقلابا حقيقيا، أم انقلابا أردوغانيا على أردوغان؟


 بقلم : ميشيل حنا الحاج

ماذا حدث في تركيا في 15 تموز (يوليو) 2016، في ليلة الجمعة على السبت؟

هل وقع حقا انقلاب عسكري تمحورت تحركاته الرئيسية في اسطنبول وأنقرة؟ 

وهل حقا نفذ الانقلاب القوات المسلحة التركية التي أنجزت بنجاح في الأربعين عاما الماضية، خمسة انقلابات عسكرية، ولكنها فشلت في المحاولة السادسة. وكان أول محاولاتها الانقلابية في عام 1960، وقاده يومئذ الجنرال جمال غورسيل الذي كان يستقبل في شوارع أنقرة (كما شاهدت بنفسي، حيث أنني  كاعلامي، قد غطيت هذا الانقلاب، وكان أول انقلاب عسكري أغطيه اعلاميا)، بهتاف الجماهير التركية القائل: " يا يا يا ... تشا تشا تشاه  ...جمال غورسيل... تشوك يا شاه"، بمعنى أن غورسيل بطل أو رجل عظيم.

ولم أغط بنفسي الانقلاب العسكري التركي الثاني، الذي وقع في عام 1971 لتواجدي في بيروت وانشغالي بتغطية الحرب الأهلية في لبنان، لكني تابعته باهتمام، وأذكر أنه قد وصف يومئذ بانقلاب "المذكرة"، لكون القوات المسلحة التركية، لم تضطر الى محاصرة موقع رئيس الوزراء سليمان ديمريل لاجباره على الاستقالة، اذ اكتفت القيادة المسلحة التركية يومئذ، بارسال مذكرة مكتوبة للرئيس ديمريل، تأمره بالاستقالة. فاستقال رئيس الوزراء صاغرا دون أي مناقشة، وعينت القوات المسلحة عندئذ حكومة جديدة سمت هي أعضاءها.

ثم وقع الانقلاب الثالث في عام 1980 (أي بمعدل انقلاب عسكري كل عشر سنوان تقريبا)، وقاده يومئذ الجنرال كنعان ايفريت، وتلاه الانقلاب الرابع في عام 1997، أي بعد صمت وسكون للقوات التركية المسلحة دام هذه المرة 17 عاما. وتلاه بعد أربع سنوات هذه المرة، الانقلاب الخامس في عام 2001،  وكان أشبه بالانقلاب الثاني، انقلاب المذكرة، عندما طالبت القوات المسلحة رئيس الوزراء نجم الدين أربكان، رئيس حزب الرفاه الاسلامي الاتجاه، بالاستقالة، فاستقال طوعا ودون أي مقاومة، علما أن حزب الرئيس أردوغان الاسلامي، بات الوريث الشرعي لحزب الرفاه، لكن هذه المرة باسم حزب العدالة والتنمية.

ثم وقع الانقلاب العسكري السادس في ليلة 15 تموز من العام الحالي. ولم يكن انقلابا بمذكرة، بل كان انقلابا عسكريا مسلحا بكل معنى الكلمة، شارك فيه الجيش الثاني التركي، والجيش الثالث، وسلاح البحرية، وحرس الحدود، بل وسلاح الجو أيضا (تم عزل كل قادة هذه الأسلحة بعد فشل الانقلاب واعتقال بعضهم)، ومع ذلك فشل الانقلاب السادس خلافا لما سبقه من انقلابات  عسكرية خمسة، رغم مشاركة سلاح الجو فيه، علما أن مشاركة سلاح الجو في انقلاب ما، هو العنصر الفاصل عادة في انجاح الانقلاب من عدمه. وكلنا  نذكر انقلاب شهر تشرين عام 1970 في سوريا، والذي سمي بالحركة التصحيحية التي أدت الى اسقاط حكومة صلاح جديد ونور الدين الأتاسي البعثية رغم ولاء عدة قطعات من الجيش لها. وكان سبب نجاح الحركة التصحيحية السورية، أن من قادها كان الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي كان وزيرا للدفاع، لكن الأهم من ذلك، كان أيضا قائدا لسلاح الجو، فحسم سلاح الجو يومئذ الصراع  لمصلحة قائده، لكون سلاح الجو هو السلاح المفصل في نزاعات عسكرية كهذه. 

ولكن سلاح الجو التركي الذي سيطر على مطاري اسطنبول وانقره، وأغلق الأجواء التركية في وجه تحليق الطائرات المدنية والعسكرية غير الموالية، لم يستطع أن يحسم الأمر لمصلحة الانقلابيين. لماذا؟ لأن جزءا من سلاح الجو (ربما طائرة واحدة من طائراته)  ظل على ولائه للرئيس أردوغان، وقد قامت طائرة F16، باسقاط مروحية كانت تهاجم مقر أجهزة المخابرات التي لم تشارك في العملية الانقلابية. 

فما الذي حدث اذن في تركيا في ليلة 15 تموز؟ هل كان ما جرى انقلابا حقيقيا، لكنه فشل نتيجة نزول الجماهير الى الشارع بناء على توجيه أردوغان نداء لهم عبر احدى القنوات التلفزيونية مستخدما الهاتف لايصال رسالته، مطالبا الجماهير بالنزول الى الشارع للدفاع عن الشرعية والدمقراطية، فهرولت تلك الجماهير بسرعة مذهلة، (وكأن الاعداد لها قد تم مسبقا)، للنزول فعلا الى الشارع  والتصدي لدبابات الانقلابيين، مذكرا بذاك التصرف، بسابقة مشابهة ساهم فيها نزول الشعب الى الشارع، في تغيير مجرى الأحداث. وذلك ما حدث في القاهرة في التاسع والعاشر من حزيران (يونيو)  عام 1967، عندما أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر استقالته من كافة مناصبه، فنزلت الجماهير المصرية بكثافة الى الشارع، مطالبة اياه بالعودة عن الاستقالة. ولعب نزول الجماهير المصرية الى الشارع يومئذ، دورا هاما باحداث تغيير هام حال دون استيلاء اليمين المصري على السلطة في مرحلة حساسة كان فيها النظام القومي القائم يومئذ، في أحلك وأضعف حالاته، نتيجة الهزيمة التي لحقت بمصر يومئذ في حرب عام 1967.

أم أن ما حدث في تركيا في تلك الليلة، ليلة 15 تموز، كان مسرحية أردوغانية مفبركة، تسعى لتحقيق عدة تطورات لمصلحة الرئيس أردوغان، كما أشار بعض المعلقين ومنهم الكاتب المغربي " مصطفى هال بابا" الذي نشر مقالا عنوانه "فيلم ليلة الانقلاب على أردوغان"، وتساءل فيه عن الأسباب التي استدعت الانقلابيين الذي يملكون السيطرة على معظم سلاح الجو، بالتركيز على قصف مبنى البرلمان الذي ليست لديه قوة عسكرية تجابه الانقلابيين، كما يركز على الهيمنة على الجسرين المعلقين اللذين يربطان تركيا الآسيوية بتركيا الأوروبية، ولم يفكر ذاك السلاح الجبار، بقصف مقر اقامة الرئيس أردوغان الذي كان يمضي اجازة عائلية على أحد شواطىء تركيا، والذي يرجح أن موقعه لا بد كان معروفا للانقلابيين ولقيادة القوات المسلحة التي سيطر عليها الانقلابيون وأسروا رئيس أركانها؟  فقصف مقر تواجد الرئيس أردوغان في مدينة ساحلية صغيرة، كانت له أهمية أكبر من قصف البرلمان والسيطرة عل الجسرين، اذ كان من المحتمل أن يؤدي الى مقتل الرئيس، وفي أدنى الحالات، الى ارباكه واضطراره للفرار من موقع الى آخر تجنبا للطائرات المغيرة التي يفتارض بها أن تطارده، وبالتالي عدم التفرغ لتولي عملية المقاومة بتوجيه نداء للجماهير بالنزول الى الشارع التركي؟

 

وهذا التشكيك بأصالة الانقلاب العسكري، لم يصدر فحسب عن كتاب ومحللين، بل صدر أيضا عن فتح الله غولان، الصديق والحليف السابق لأردوغان، والذي نشب خلاف بينهما حول صيغة وصبغة الاسلام المطلوب تنفيذه في تركيا: هل هو الاسلام الاجتماعي كما يطالب غولان، ويعززه بفتح مئات المدارس هنا وهناك في أنحاء المعمورة، ومنها 165 مدرسة في الولايات المتحدة.. وهي الرؤية التي تتعارض مع رؤية أردوغان الذي يرغب باحلال الاسلام السياسي  لا الاجتماعي، في تركيا وأنحاء أخرى من العالم. فالداعية فتح الله غولان الذي شجب الانقلاب العسكري، قد شكك علنا بأن الانقلاب قد يكون مفبركا.   

 

ان ما يرجح هذا الاحتمال أو ذاك، هو التوجه القادم (بعد الانقلاب) للرئيس أردوغان. فاذا توجه نحو مزيد من التشدد، ومن اقرار مزيد من الخطوات التي كان يسعى اليها، لكنها كانت تجابه بالعثرات وبالاعتراضات من عدة أحزاب تركية معارضة، سيبدأ الترجيح عندئذ بأن الانقلاب كان مفبركا، وكان انقلابا أردوغانيا على أردوغان، بغية تمهيد الطريق لاقرار كل مطالبه بالتغيير، ومنه التغيير نحو النظام الرئاسي، والتغيير لالغاء الصبغة العلمانية الأتاتوركية عن الدستور التركي، والذي من أجل الحفاظ عليها، نفذت القوات المسلحة التركية خمسة انقلابات عسكرية خلال أربعين عاما... واحلال الصبغة الاسلامية على الدستور، بوضع نص يقول أن دين الدولة هو الاسلام، والاسلام هو مصدر التشريع في تركيا، الأمر الذي حاول طرحه على البرلمان التركي قبل عدة شهور، فتصدت الأحزاب المعارضة له وحالت دون اقرار مشروعه ذاك.

فهل كان الانقلاب العسكري انقلابا حقيقيا، أم كان انقلابا أردوغانيا استباقيا، سعى اليه أردوغان لاحباط احتمال وقوع انقلاب عسكري حقيقي، أسوة بالانقلابات العسكرية الخمسة السابقة، وذلك لحماية العلمانية الدمقراطية من الضياع في تركيا؟

ليعرف العالم حقيقة ما حدث، لا بد له أن ينتظر ليقرأ الى ما ستتوجه الخطوات الأردوغانية القادمة، علما أن الكثير من المؤشرات قد بدأت في الظهور، موحية بأن أردوغان يتوجه فعلا نحو التشدد، والى ارساء  صبغة الاسلام السياسي على الدولة التركية.  ومن بعض تلك المؤشرات التي ظهرت حتى الآن، ما يلي:

1) اعفاء 27 ضابطا من كبار ضباط القوات المسلحة ذوي الرتب العالية، مع أنه لم يكن لهم دور في الانقلاب العسكري المذكور.

2)اعفاء نحو 2500 قاضي من سلك القضاء فورا، ومنهم خمسة من قضاة المحكمة العليا، بل واعتقال أحدهم مع أنه لا رابط بين القضاة والحركة الانقلابية. ويعترف بعض المعلقين الأتراك، ومنهم محمد غول، أن التوجه لترحيل هؤلاء القضاة كان موجودا على أجندة أردوغان، لاعتقاده بأنهم مناصرون لفتح الله غولان الذي يقود التيار الموازي لتيار أردوغان. ولكن الرئيس التركي، لم يكن قادرا على تنفيذ قراره ذاك لغرابته، فجاء الانقلاب ممهدا ومبررا له.

3) الرئيس التركي رفع للمرة الأولى علنا، كما قالت بي بي سي، وعزز قولها آخرون بما فيهم المعلق المصري جميل حسن أبو طالب، من صحيفة الأهرام، اشارة رابعة الذي استخدمه الاخوان المسلمون في مصر خلال مرحلة المجابهة مع الاخوان المسلمين في مصر في عام 2013 .

4) استخدم أردوغان  سلاح انزال الجماهير الى الشارع لتعزيز موقف سياسي، خلافا لنداءاته السابقة لأحزاب المعارضة، كما يقول المعلق التركي بركات قارا، حيث كان يشجع على عدم استخدام الجماهير في الشارع لتأييد توجهاتهم.

5) أشار في خطابه الذي القاه اليوم  السبت في البرلمان، بأنه هناك احتمال لاصدار قانون يأذن بحكم الاعدام غير الساري حاليا في تركيا بموجب القواين السائدة.  وهذا يعزز توجهه لاستخدام أقسى وسائل الشدة، لا بالضرورة لمعاقبة الموصوفين بالانقلابيين، بل لمعاقبة معارضيه الآخرين.  وأنا أقول ذلك لأنني كخريج من كلية الحقوق، أعلم بأن القوانين حين تشرع، لا تسري بحسب الأصل، على الجرائم التي سبق وقوعها  على صدور القانون، بل على الجرائم المقترفة بعده. وهذا يعني أنه رغم امكانية تعديل القانون ليأذن بفرض وتنفيذ عقوبة الاعدام، فانه لن يسري على الانقلابيين، لحصول الفعل الجرمي سابقا على صدوره (ما لم يتضمن نصا يقضي بتنفيذه بأثر رجعي مع حاجة قانون كهذا لأكثرية خاصة)، ولكنه سيسري على عدد من معارضيه الذين قد يتعامل معهم بمنتهى الشدة بعد الانتصار على الانقلابيين، علما بأنه قد استطاع قبل عدة شهور، من استدراج البرلمان لاصدار قانون يأذن برفع الحصانة عن بعض النواب المنتخبين تمهيدا لمحاكتهم. وكان المقصود بذاك التشريع، نواب ينتمون لحزب الشعوب الكردي الدمقراطي.  ولكن قد يوسع الآن تنفيذه، ليشمل آخرين من معارضيه اذا قرر التشدد فعلا في نهجه القادم، وهو ما ترجحه المؤشرات العديدة الوارد ذكرها سابقا.

6) شكل الانقلاب مناسبة لمطالبة الولايات المتحدة باعتقال فتح الله غولان وتسليمه للعدالة التركية، باعتباره المخطط للانقلاب والمشجع على تنفيذه. ويعترف المعلق السياسي التركي محمد غل، بأنه هناك مكتب محاماة في واشنطن معتمد من قبل تركيا، لاعداد مذكرة المطالبة بتسليم غولان لتركيا. ويعترف أيضا، بأن المكتب يعمل في هذا الشأن منذ فترة من الزمان، أي قبل وقوع الانقلاب العسكري، مما يوحي بأن وقوع الانقلاب، قد عزز موقف أردوغان بالمطالبة باعتقال غولان الذي كان يستند لأسباب ضعيفة واهية، فجاء الانقلاب واتهام غولان بالوقوف وراءه، مناسبة لتعزيز المطالبة الأردوغانية بتسليم غولان لتركيا، والتي كانت تستند لمبررات وأسباب واهية، قبل وقوع الانقلاب.  فجاء الانقلاب ليعزز المطلب الأردوغاني بتسليمه لتركيا.  

ومسألة  التوجه نحو التشدد عوضا عن الاعتدال وتصحيح مسارات علاقاته، سواء في الداخل أو مع الخارج، بما في ذلك من تحقيق مزيد من الخنق للديمقراطية وللحريات في الداخل، والتي كان قد ضرب بها أردوغان عرض الحائط أحيانا، فكم الأفواه واعتقل صحفيين وأغلق صحف، مما أدى لعديد من الانتقادات الصادرة عن الاتحاد الأوروبي الذي يتعامل بحذر مع تركيا نظرا لتجاهلها أبسط مبادىء الحرية وحقوق الانسان... هذه المخاوف من تراجع الدمقراطية، يمكن لمسها بين سطور الخطابات التي القاها اليوم في الجلسة الخاصة للبرلمان التركي بمناسبة انتهاء الانقلاب، عدد من زعماء الأحزاب وأبرزهم رئيس حزب الشعب الجمهوري "قليتش دار أوغلو" الذي أكد على أهمية الدمقراطية التي  من أجل الحفاظ عليها، بادر كل رؤساء احزاب المعارضة للتنديد بالانقلاب، باعتباره خطوة للحد من الدمقراطية والشرعية التي هي أحد أصول الدمقراطية.

اذن ما الذي حدث في تركيا في ليلة الخامس عشر من حزيران؟  هل كان انقلابا حقيقيا  رغم ما بدت فيه من سذاجة في التنفيذ، أم حركة استباقية؟ لا أحد يعلم بعد على وجه اليقين، وقد لا نعلم قبل مرور بضعة أسابيع على ذاك الحدث الموصوف بالجلل، لما حمله معه من احتمالات انهاء للشرعية وللدمقراطية في تركيا. فالمرجو الآن، ألا يتخذ ذريعة لكم الأفواه والحد من الدمقراطية التي شجب الانقلاب حفاظا عليها.


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع