وأعود ولن أمل من التكرار والإلحاح، لعل التكرار يعلم من لا يتعلم، أو بالدقة من لا يريد أن يتعلم. أعود لأقول إننا وبسبب من ضعف القوى المدنية، ومن تهالك الحكومات وخضوعها لقوى التأسلم وربما لاستحسانها المكتوم والمخجل معاً لأفكارها ولؤمها وجرائمها، بسبب ذلك نحن نتراجع ليس فقط فى مجال إعمال العقل والعلم والتحرر والإبداع وإنما أيضاً فى مجال المواطنة المتكافئة.
والآن نحن مع وثيقة من العصر العثمانى الأسود، لنجد أن عصرنا أصبح أكثر سواداً. والوثيقة مؤرخة 1082 هجرية، أى منذ أربعة قرون ونصف قرن، وقد أوردها د. محمد عفيفى منذ أكثر من ربع قرن ميلادى فى رسالة دكتوراه. ونقرأ نصوصها لتكون وخزات فى جنوب ليس المتأسلمين الذين يستثمرون تأسلمهم وإنما فى جنوب حكومة ضعيفة ومجلس نواب لا يمتلك بعض نوابه الحس الوطنى المرهف لحماية الجسد المصرى الموحد، وبعض رجال يسمون أنفسهم «رجال دين».
«صورة أمر شريف أحضره جماعة النصارى الشاكين بالمنصورة سائلين: ماذا يقول السادة العلماء (رضى الله عنهم) فى طائفة من النصارى ساكنين بمدينة المنصورة بأملاكهم عن آبائهم وأجدادهم وفى كل وقت يتعرض لهم جماعة بالأذية والإضرار ويتعللون عليهم بأنهم يعلون بناءهم على أبنية المسلمين، وإنما يقصدون بذلك ظلمهم بغير وجهه الشرعى، فهل والحالة هذه يجوز للجماعة المذكورين أذية طائفة بالتساويف الباطلة والتعللات الواهنة؟». فماذا كان رأى قضاه المذاهب الأربعة؟
الشيخ عبدالمنعم البشبيشى، شيخ المذهب الحنفى، أفتى: «لا يجوز للجماعة المذكورين أذية طائفة النصارى المذكورين بالتساويف الباطلة والتعللات الواهنة، ويحرم عليهم ذلك، ويثاب ولى الأمر على منع من يتعرض لهم بغير وجه شرعى. والله أعلم».
أما الشيخ محمد بن قمر الباب، شيخ المذهب المالكى، فقد أفتى: «يحرم من سوّف على جماعة النصارى أو سعى فى أذيتهم أو ظلمهم أو تغريمهم شيئاً ظلماً، يقول الصادق الصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم السلام (من آذى ذمياً أو أنقص ماله كنت حجيجه يوم القيامة). وللنصارى المذكورين التصرف فى بناياتهم وإن عرف من تسبب فى غرمهم كان لهم الرجوع عليه بجميع ما غرموه، وعلى من له ولاية الأمر كف القهر عن الرعية المذكورين فهم كنصارى من جماعة الرعية وكل راعٍ مسئول عن رعيته». وجاءت فتوى الشيخ حمدان المقدسى، مفتى المذهب الحنبلى، لتقول: «لا يجوز للجماعة المذكورين أذية طائفة النصارى المذكورين بالتساويف الباطلة عليهم، لكون النصارى معصومين ولا يجوز لأحد أذيتهم بغير وجه شرعى». أما فتوى الشيخ محمد المرحومى شيخ المذهب الشافعى فقد كانت أكثر وضوحاً وأشد حسماً: «لا يجوز للجماعة المذكورين أذية طائفة النصارى المذكورين ولا إضرارهم ولا ظلمهم ولا التسبب فى تغريمهم ولا التعلل عليهم بالأوهام الباطلة الواهنة. ويتعين على ولى الأمر عقاب من يتعرض للنصارى بالأذية بالعقاب اللائق بحالهم، الزاجر لهم ولأمثالهم عن قبيح أفعالهم بما يراه الحاكم باجتهاده من حبس أو نفى أو ضرب أو غير ذلك». فمن لنا الآن بشيوخ كهؤلاء، ومن لنا بمن يأمر ولاة أمورنا اليوم بضرورة عقاب المتأسلمين وردعهم.. خاصة أن الشيخ «المرحومى» قد حسم الأمر قائلاً فى آخر فتواه: «ذلك أن كل من استحل ظلم النصارى كفر وخرج عن الإسلام وجرت عليه أحكام المرتدين لأنهم معصومون فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يظلمهم، ويثاب ولى الأمر على الأخذ بيدهم وعلى منع كل من يتعرض لهم بظلم أو غرم أو غير ذلك. والله أعلم».
فيا ولاة الأمر فينا أمَا من أحد ينشد ثواب تطبيق صحيح الإسلام؟
ونواصل ما كان فى الماضى، ففى عام 1651 حدث نزاع بين أوقاف كنائس مارجرجس بمصر القديمة وبين وقف زاوية الشيخ النعمانى حول أحقية كل منهما فى بعض العقارات. وتبدو القضية شائكة وبالغة الحرج فالصراع يتمثل فى نزاع على ملكية كنيسة ومسجد لعقار. لكن قاضى قضاة ذلك الزمان أقام ميزان العدل إذ وجد أحقية الكنيسة فى العقار فأمر بحيازتها له (منسى القمص- تاريخ الكنيسة القبطية- ص600)، وفى عام 1600 زار مصر الرحالة كاستيلا، والرحالة فاريارد فى عام 1678، وأشاد كلاهما بالتسامح الدينى وبحرية المسيحيين فى ممارسة شعائرهم. وفى عام 1711 قال الأب اليسوعى بيرنا: «إن مصر هى البلد الوحيد فى الدولة العثمانية الذى تقام فيه الشعائر المسيحية بحرية لا تتوافر فى أى بلد آخر ولهذا يلجأ إليها العديد من مسيحيى البلدان الأخرى» (المرجع السابق).
وعندما قامت فتنة بين الأقباط والمسلمين فى هذه الفترة بدأ البابا القبطى يوحنا بإدانة عنف الأقباط، قائلاً: «هؤلاء سفهاء ومن أكل الحامض ضرس». وعموماً فقد تلقى المصريون جميعاً وعلى مدى التاريخ درساً قاسياً إذ اكتشفوا دوماً أن من يضطهد الأقباط سوف يضطهد الجميع، ففى عام 1638 أصدر المحتسب قراراً بأن النصارى ما يدخلون الحمّام إلا كل واحد بجلجل فى رقبته. وسكت المسلمون فإذا بالمحتسب ينادى بالمسلمين «أن لا أحد منهم يمشى حافياً ولا يدخلون الحمّام إلا بقبقاب وكل من سمع الأذان ولم يترك ما فى يده من عمل أو تجارة ويسرع للجامع يُضرب ويجرى تجريسه. وأدرك أصحاب الحمّامات من مسلمين وأقباط الظلم المشترك الذى حاق بهم فجمعوا من بينهم ثمانية آلاف نصف فضة وبرطلوا بها الأغا المحتسب طالبين إلغاء القرارات فألغاها» (أحمد بن عبدالغنى- «أوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات» (ص378) ولم يورد ابن عبدالغنى هذه «الإشارات» عبثاً فقد فتح بها الطريق لتكاتف المصريين من مسلمين وأقباط معاً ويداً واحدة ضد أى ظلم يطال بعضهم، فالحاكم الظالم يبدأ بالأضعف ثم يستمرئ الظلم فيظلم الجميع.
فيا أيها الجميع.. تعلموا الدرس.
نقلا عن الوطن