ما بعد دهس الأبرياء فى شوارع نيس، وما بعد تبريرات الإخوان والسلفيين لإرهاب الدم، آن أوان وقوف «البخارى» وكتب التراث أمام القضاة، قضاة التحقيق، والتنقيب، والتنقية، فلم يعد «البخارى» ومراجع السيرة والأحاديث مجرد كتب تضم بين أغلفتها سنة النبى محمد، عليه الصلاة والسلام، بل أصبحت صندوقاً سحرياً يلجأ إليه المتطرّفون والمتشدّدون للحصول على مبررات وإجازة شرعية لجرائمهم.
فى البدء استخدمها الإخوان لتبرير استخدام الألفاظ القبيحة والشتائم غير العفيفة ضد خصومهم، واستعانوا بأحاديث نبوية وقصص من السيرة لتبرير فعلتهم، ثم استخرجوا من بطن الكتب نفسها بعضاً من الأحكام الفقهية والأحاديث لإجازة قتل الجنود، ثم لعب أهل «داعش» فى تأويلات بعض الآيات والأحاديث والقصص النبوية، لإجازة تجارة الرقيق، وسبى نساء العراق، وذبح المخالفين لهم فى أرض سوريا والموصل، والآن ها هم يلجأون إلى الكتب نفسها، ويستخلصون من بين سطورها قصصاً عن سيدنا «أبوبكر» وعدد من الصحابة لتأكيد حرق خصومهم، وقتل المدنيين ودهسهم فى شوارع مدينة نيس الفرنسية.
مع ظهور هذه الآيات والأحاديث وقصص السيرة التى لا ينكرها شيوخ الاعتدال الإسلامى، ويتخاذلون عن تنقيتها أو ردّها أو الحسم فى تكذيبها، أو يهملها وزير الأوقاف مختار جمعة لصالح الانشغال فى معارك جانبية لإطالة عمره على كرسى الوزارة، يصبح من الطبيعى جداً أن تنتشر اتهامات الغرب للإسلام، لأن أحكامه التى تُبرّر للإرهاب والقتل، مستوحاة من الكتب التى يقول البعض: إنها مقدّسة ولا يجوز الاقتراب منها بالنقد والتفنيد والتنقية.
الإسلام الآن يتعرّض لأكبر حملة تشويه فى تاريخه بيد أبنائه، الدين الذى ظل أهله لعقود يرسمون له صورة رسالة الرحمة والسماحة، يستخرج بعضٌ من أهله فتاوى تجيز الحرق والذبح والقتل لخصومهم، ومعركة استعادة الإسلام من يد هؤلاء هى فى الأصل معركة بين فريقين، فريق يرفع شعار النقل، ويكره الاجتهاد والتفكير، وفريق يرفع شعار العقل، ويدعو إلى النقد والتنقية والتفنيد، وآن أوان الاختيار، إما أن تعترف بأن ما تقوله كتب التراث والسلف وشيوخهم المتطرّفون صحيح وواجب التطبيق حرفياً، وبهذا تنضم إلى أهل «داعش» ومن معهم، ولا يجوز أن تستنكر فعلتهم، وإما أن تقول مثلما يقول بعض الإخوان المسلمين: إن ما تستند إليه «داعش» من فتاوى وأحاديث وآيات صحيح وواجب شرعى، لكن ظروف تنفيذه غير متوافرة حالياً، وفى هذه الحالة أيضاً أنت متطرف داعشى فى انتظار التوقيت المناسب للإفراج عن حقيقتك، والخيار الأخير الذى يخشى شيوخ الاعتدال إعلانه بصراحة، أن ما تستند إليه «داعش» ربما يكون صحيحاً، لكنه صحيح فقط وقت حدوثه، ابن بيئته وتاريخه وزمنه، لكنه لا يناسب أبداً زمننا وعصرنا وهنا تسقط أحكام وجوبيته، ويفتح الباب للتجديد وتنقية أمهات الكتب مما علق بها من شوائب التطرّف.
نقلا عن الوطن