لم يكن الأمر غريباً، ولا مفاجئاً، لم تقم الدنيا، ولم تقعد، لم نرَ على الوجوه صدمة أو حتى امتعاضاً، مضى الخبر كأنه تحصيل حاصل، أمر واقع لا بد من التسليم به.
عندما أعلن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء مؤخراً أن 49٪ من سكان الصعيد لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية اليومية من الغذاء توقعت أن تدعو الحكومة وزراءها إلى اجتماع عاجل تبحث فيه هذه «الكارثة» وتداعياتها الخطيرة، غير أن التقرير مرّ مرور الكرام!!
لم يأت التقرير بجديد، فقط كان كاشفاً، ومنذراً، لم يعد البعض يعير اهتماماً بقرع الأجراس، أو الإنذار المبكر، فالصعيد حالة استثنائية، وأهله قادرون على التحمل، والجوع على أرضه أصبح عادة يومية، بالرغم من أن التقرير ذاته أعلن أن نسبة الفقر فى عموم مصر وصلت إلى 26.5٪.
ومن بين محافظات الوطن المختلفة استطاع الصعيدى أن يحصد المراكز الأولى فى الفقر وتدنى مستوى المعيشة، ذلك أن محافظة أسيوط حصلت على المركز الأول، حيث بلغت نسبة الفقر فيها 60٪، واحتلت محافظة قنا المركز الثانى بنسبة 58٪، واحتلت سوهاج المركز الثالث بنسبة 55٪، والأقصر 48٪، وأسوان 39٪، والمنيا 30٪، والوادى الجديد 25٪. ومظاهر الفقر «المدقع» فى بلادنا لا تتوقف عند حدود الفقر الغذائى الذى ينذر بكارثة جوع على النمط «الصومالى»، بل إن مظاهر الفقر تتعدد فى المدارس المتهالكة والمستشفيات الخربة، وندرة كوب الماء النظيف، وغياب الصرف الصحى عن غالبية القرى والمناطق والنجوع، وشرب المياه من الآبار الملوثة. انتشر الفقر والجهل والمرض ليعم تلك المساحة السكانية التى تجاوز الـ40٪ من مساحة مصر، فعادت البلاد إلى سيرتها القديمة قبل الثورة، بينما كان الصعيد فى أزمان سابقة ينعم بالرخاء وبالتجارة، صعيد مصر الذى وصفه أحد الكُتّاب بالروضة المصرية والتحفة النيلية، هذا الصعيد الصاعد السامى، الأخضر الذى يشق صحراء مصر الجرداء، الذى كان مسكناً ومأوى لأكثر أجناس الأرض، تحول الآن إلى مناطق يسودها الجوع والعوز، وندرة الخدمات.
وبالرغم من أن الحكومات المصرية المختلفة أطلقت الوعود بالتنمية والنماء لصعيد مصر، فإن الصعيد يبقى بعد كل هذه التطورات التى تشهدها البلاد فقيراً معدماً، مهمشاً حتى عن صناعة القرار.
لم نسمع منذ وقت طويل عن اختيار رئيس حكومة من الصعيد، وإذا تم اختيار وزير أو مسئول سياسى فهذا يتم فى كل الأحوال بطريق الصدفة، وليس أكثر، حتى أصبح أبناء الصعيد يشعرون بالإقصاء المتعمد فى كل المجالات والمواقع والخدمات، وكأنهم «جنس» مختلف عن أبناء الوطن.
أُدرك أننا أمام بداية جديدة، وتعهدات واضحة من الرئيس عبدالفتاح السيسى، غير أن الوضع لا يزال على حاله، وحتى المسئولون التنفيذيون فى غالبية المحافظات ما زالت تحكمهم الثقافة القديمة، كأنهم فى فترة «منفى»، يعدون الأيام على مضض، وينتظرون لحظة الرحيل.
وربما قلة هى التى قدمت عطاء متميزاً للصعيد، يأتى فى مقدمة هؤلاء اللواء عادل لبيب محافظ قنا الأسبق وصاحب النهضة الحضارية التى لا تزال سارية فى المحافظة التى أحبها وأحبته، وبكته بالدموع عندما غادر أرضها.
والصعيد الذى يتهمه البعض بالتخلف والرجعية يتمتع بأصالة عريقة وانتماء فطرى بلا حدود، وقدرة على التكيف مع الأوضاع والظروف الجديدة، واستعداد لمواكبة منظومة التطور وحمايتها والحفاظ عليها.
ويعيب البعض على «الصعيدى» انفعالاته فى مواجهة الخطأ، ورفضه المساس بكرامته، واعتزازه بذاته، وعطائه بلا حدود، وصدقه مع النفس، وحرصه على وعوده، وغيرته على أهله ووطنه، غير أن ذلك بالقطع لا ينال من قناعاته وتمسكه بثوابته، وحتى لهجته تبقى دائماً مثار اعتزاز لديه.
والصعيدى لديه قدرة على التحمل بلا حدود، صحيح أنه يعتز بموطنه، ولكنه لا يجد غضاضة فى السفر إلى خارج هذا الموطن بحثاً عن لقمة العيش، من هنا يقال إن الصعيد طارد لأهله، الذين يتجولون فى مناطق مصر المختلفة بحثاً عن مصدر للرزق والعمل، ويرحلون إلى دول الخارج، ويقضون سنوات الغربة، لستر بيوتهم وأقصى ما لديهم من أحلام بناء «بيت من المسلح» وشراء قراريط معدودة من الأرض لزراعتها حين العودة.
وليس صدفة أن تجد أبناء الصعيد، وقد تزايدت أعدادهم بكثرة فى مناطق مثل حلوان وعين شمس وإمبابة وبولاق الدكرور والعمرانية ومصر القديمة والبساتين ودار السلام والكيلو 4.5 ومدينة السلام ومنشية ناصر وفيصل وغيرها، بل إن مدينة الإسكندرية وحدها يصل فيها عدد أبناء الصعيد إلى ما يقارب الـ60٪ من سكانها الأصليين.
وهذه الهجرة القسرية لا تعنى انقطاع الصلة بين أبناء الصعيد وبلدانهم، بل تجدهم يحجون دوماً إلى هناك فى المواسم والأعياد، فى العزاءات والأفراح، بل ويسعون دوماً إلى بناء مجتمعات صعيدية صغيرة فى الأماكن الجديدة التى يقطنون فيها، حتى فى الخارج هناك منطقة «خيطان» الكويتية مثالاً واضحاً لذلك.
وإذا كان الصعيد هو أصل مصر، فهو كان دائماً وفياً لها، مضحياً من أجلها، حتى وإن عتب عليها. وفى ظل مراحل الأزمات والفوضى فى التاريخ القديم أو الحديث، كان الصعيد دوماً حريصاً على استقرار الدولة المصرية وبنيانها وجيشها العظيم.
وفى أحداث «25 يناير» ظل الصعيد محافظاً على الاستقرار رافضاً الفوضى وإحراق المنشآت، حريصاً على علاقاته الاجتماعية والقبلية، وعندما راح البعض يتهم أبناء الصعيد بالاستكانة للأمر الواقع، فاجأهم بها أهل الصعيد رجالاً ونساء شباباً وفتيات بالحشود الضخمة التى نزلت إلى الشارع فى ثورة الثلاثين من يونيو، فى مواجهة الإخوان، وحفاظاً على هوية الدولة المصرية.
وفى محافظات الصعيد نادراً ما تجد الشعارات «القميئة» «يسقط حكم العسكر» أو غيرها، ذلك أن الناس هناك، شأنهم شأن العديد من المناطق وريف الوجه البحرى، تعرف معنى الدور التاريخى للجيش المصرى فى حماية الدولة الوطنية وكيانها ومؤسساتها.
ورغم رهان الإخوان وقوى الخارج على الصعيد، والسعى إلى إثارة الفتن العرقية والطائفية على أرضه، فإن سكان هذه المناطق لديهم قدرة غريبة على وأد المؤامرات ودحرها مع بدايات انطلاقها، وكأن الصعيد يبعث برسالة إلى الجميع مفادها أن هذا الجسد عصىّ على الانكسار أو الاختراق، باعتباره جزءاً أصيلاً من الكيان الوطنى الكبير، مهما كان الإحساس بالتهميش أو الإقصاء أو الفقر.
بقى القول أخيراً: إن الحكومة المصرية مطالبة بأن تعيد النظر فى سياستها تجاه الصعيد ومشاكله التى باتت مزمنة، ذلك أن الصمت على ما يجرى وتفاقم الفقر وتدنى الخدمات أمر من شأنه أن يهدد بكارثة كبرى، فالجوع كافر والإحساس بالتهميش يدفع إلى مزيد من الغضب والاحتقان.
نقلا عن الوطن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع