د. أحمد الخميسي
بعد نحو عام تحل ذكرى نكسة 67 الخمسون. وإذا أنت أدرت بصرك إلي حالنا التي كنا عليها من نصف قرن سيخيل إليك أنك تشاهد فيلما قديما، أبيض وأسود، كل شيء فيه مختلف: الموضوع، وهواء الصورة المشبع بالوضوح، والفكرة، والأماني التي انحسرت. حينذاك كانت التخوم السياسية والفكرية واضحة، والطاقات متفجرة، والثورة الفلسطينية ماتزال ترفع بنادقها وتوجه ضرباتها إلي العمق الإسرائيلي، والشعوب العربية تبدى استعدادها الأسطوري لحمل السلاح دفاعا عن حريتها على طريق مشروع الطهطاوي:"ليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة نبنيه بالحرية والفكر والمصنع"! وكانت القضية الاجتماعية وهموم الناس والوطن وانتصاراته نصب عيني الأدب والفن، والثقافة تتغنى بوطني الأكبر، وبتحرير الجزائر، ومعركة السويس، وتحدي الاستعمار البريطاني والأمريكي، وعلى جدران البيوت صور جميلة بوحريد، وجول جمال، وليلى خالد، وغيرهم. في كل ذلك كان العقل العربي الوطني يرتكز إلي إيمانه بحقه في تحرير بلاده،
وإزاحة القاعدة العسكرية الاسرائيلية من فلسطين، والتخلص من التبعية، وحقه في التصنيع، والتعليم، والتطور، والاستقلال، وتحرير المرأة، والاهتداء بأنوار العلوم والفنون الحديثة. لكن نكسة 67 أنزلت ضربة قاصمة بمجمل مشروع التحرر الوطني في وطننا العربي، وبثقافة الاستقلال الاقتصادي والفكري، وتولت سنوات الانتكاس الطويلة تغيير ركائز العقل الوطني وتفكيكه وتجزئة مفاهيم الحرية والفكر. وربما تكون الضربة التي نزلت بالعقل العربي هي أخطر نتائج النكسة، ذلك أن كثيرا من الأمم لاقت في تاريخها هزائم عسكرية شبه ساحقة، إلا أن عقلها الوطني لم يتفكك، ولم يتفتت، فاستطاعت أن تعيد بناء قوتها لتنهض وتواصل التقدم. أما عندنا فقد تكفلوا على مدى نصف قرن بتبديل ركائز الفكر ببطء، وبتذويب العكارة في ماء النهر إلي أن اختفى النهر ولم يبق سوى العكارة: في السياسة والثقافة وحتى الشعور بالوطن! وإذا بالنكبة التي كانت مقتصرة على فلسطين تبتلع العراق وسوريا واليمن وليبيا، وإذا بألسنة لهبها تهب على نوافذ ييوتنا وبلادنا وتحرق وجه الأمل. ويؤكد اتساع نطاق التدمير أننا أمام موجة من أكبر موجات الغزو الاستعماري، تماثل من حيث العنف والمدى الغزو العثماني الذي تمر على ذكراه هذا العام خمسمئة سنة. حينذاك - في حرب سليم الأول- استولى العثمانيون على مدن سورية ولبنان وفلسطين تباعا وقتلوا ومثلوا بعشرات الآلاف، ونهبوا ثروات البلاد، واتخذوا من النساء سبايا ودمروا كل نافع من الصناعات والحرف. وهو ما يقوم به الغزو الجديد الذي نشهده الآن، في العراق وليبيا ثم سوريا فاليمن،
غزو ترافق مع تصفية العقل الوطني وتفكيكه ودفعه بذكرياته وركائزه الوطنية وآماله إلي حافة الموت، تصفية العقل لأنه مستقر الحياة والإرادة. بهذا الصدد ثمت كتاب صغير للدكتور عبد المحسن صالح اسمه"ماهو الموت؟"، يستعرض فيه تجربة أجراها العلماء على كلب لمعرفة"ما هو الموت"؟، وفيه يقول إنهم فصلوا كل أعضاء الكلب عن جسمه عضوا فعضوا، واحتفظوا برأسه فحسب منزوعا من البدن، ثم قاموا بضخ المحاليل والدماء اللازمة ليبقى الرأس حيا، ففتح الكلب عينيه وأدارهما فيما حوله وتعرف إلي صوت صاحبه ودمعت عيناه وهو يلعق يديه!
الموت إذن ليس بتر الأعضاء ولا تمزيق الأوطان مادام العقل حيا واعيا! لهذا كان لابد من تبديل كل ركائز العقل الوطني بحيث يصبح العالم العربي" الشرق الأوسط"،ويمسي "الكيان الصهيوني" دولة إسرائيل، ويغدو المناضلون"نشطاء سياسيين"متمولين من الغرب، ويقتصر حق الوطن على مجموعة حقوق صغيرة متناثرة لا رابط بينها:حقوق المعاقين وحقوق الأطفال وحقوق المرأة، وهلم جرا. أما مفهوم الدولة القومية وسيادتها وحدودها فيصبح من المفاهيم البالية العتيقة إلا إن كانت تلك الدولة من الدول الغربية حينئذ يغلقون حدودها بإحكام في وجه المهاجرين السوريين والعراقيين وغيرهم، وحتى الوطن ترنيمة القلب المقدسة أحالوه إلي كذبة جغرافية لأننا"في عصر العولمة"، وانهالوا على وحدته بالمعاول يفتتونه في الوعي إلي أشلاء عرقية ودينية فإذا بالحديث في مصر يدور عن" النوبة"، و" بدو سيناء"، و" دولة الأقباط"، ويدور في سوريا عن"العلويين"، و" الأكراد"، و" العرب" و" الدروز".
وفتحت المدفعيات الفكرية الثقيلة نيرانها على مفاهيم التحرر من التبعية الاقتصادية والسياسية، وتم تصدير فكرة واحدة يرتزق بها " نشطاء المنظمات الممولة" هي الديمقراطية الحل السحري لكل القضايا، وهي تلك الديمقراطية المقتصرة أدوات الديمقراطية من دون وظيفتها ، أي على البرلمان وحرية الصحافة والتعددية الحزبية والحق الانتخابي وحرية التعبير وما إلي ذلك، شرط ألا تمس تلك الأدوات أو تهدد الوجود الاستعماري، أو تؤدي دورها في تطوير حياة الملايين، فإذا هي هددت شيئا من ذلك وجب الإطاحة بها، كما حدث حينما فاز سلفادور الليندي في انتخابات ديمقراطية برئاسة تشيلي عام 1970فتدخلت أمريكا لعزله بالقوة، وكما حدث حين فازت حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006 فأعلن البيت الأبيض وقف معوناته المالية للفلسطينيين، والأمثلة كثيرة.
ذلك أن السؤال الحقيقي المتعلق بالديمقراطية هو : هل تكون الأدوات والمؤسسات الديمقراطية عاملا في تفعيل حركة القوى الوطنية في مواجهة التبعية أم مجرد حلوى يوزعونها على النخبة من مثقفي البلدان شبه المستعمرة لتصبح هذه النخبة فئة ذات امتيازات معزولة عن هموم بلادها. وقد جرى طويلا ترويج مكثف للقبول بهذه الديمقراطية الشكلية عوضا عن مطلب التحرر الوطني، كما تم الترويج لتقديم "الاستبداد الداخلي" بصفته هدفا للنضال بديلا عن" الاستعمار والهيمنة"، مع أن كل مواجهة نزيهة لأي استبداد داخلي لابد أن تقود لمواجهة التبعية والاحتلال، لأن الاستعمار أعنف أشكال قهر الديمقراطية.
وجري تفكيك العقل الوطني على المستوى الثقافي بالدعوة إلي" تطبيع العلاقات" مع كيان عدواني استيطاني، والإلحاح على فكرة"قبول الآخر" و" ثقافة السلام" التي تستلزم وفقا للخطاب الأمريكي تحقير كل نزعات المقاومة التي تبديها شعوب احتلت أجزاء من بلادها في سوريا ولبنان ومصر وفلسطين وقيدت أياديها بمعاهدات مذلة وجائرة. ثقافة" سلام" تتولى ترويض الشخصية العربية وقتل دوافع وآمال النضال فيها كما سبق لأمريكا أن فعلت من قبل ببرامج تعليم استهدفت ترويض الشخصية اليابانية والألمانية بعد الحرب العالمية الثانية بزعم وجود ميول عدوانية في ثقافتي الشعبين. وللتعمية على جوهر الصراع يتم تصوير القضية كأنما هي" صراع حضارات"!
فيؤكدون لنا أنه لاجدوى من أي مقاومة، لأن الاستعمار هو" نهاية التاريخ" لا شيء بعده ولا أمل. ويقصفون ويدمرون العقل الوطني في المجال الأدبي والفني، وينشرون بأموال هائلة وبواسطة مؤسسات ومنظمات وبؤر ومراكز ثقافية ومكتبات أن"عصر القضايا الكبرى" في الأدب قد ولى وغرب اتساقا مع فكرة أن عصر الدفاع عن الوطن قد غرب، ومن ثم لم يبق للأدب من دور سوى اكتشاف " الذات" وتأملها، كأنما ثمت ذات معلقة في الفراغ بمفردها بمعزل عن الآخرين، وكأنما لم يبق هدف مشترك للجميعلكن مجموعة" ذوات " متناثرة، مثلها مثل الحقوق المتناثرة ، ذوات تتشظى في العمل الأدبي، داخل زمن يتشظى،في نصوص عكف أصحابها على تأمل أنفسهم وذكرياتهم وكل ما يلوح لهم غريبا واستثنائيا. وقد دفعت هذه الحالة ناقدا فرنسيا كبيرا كان من ألد أعداء اليسار لمراجعة أفكاره والقول بأن" الأدب في خطر" خطر ناجم عن النظرة التي فصلت العمل الأدبي عن دوره الاجتماعي ودفعت الأدباء إلي الاستغراق في عوالمهم الذاتية وإلي نرجسية تسوقهم لوصف أدق تفاصيل تجاربهم الجنسية التافهة وأدنى انفعالاتهم وشذرات مشاعرهم مما أسقط الأدب في فخ الشكلانية، والأنا، والعدمية، والذاتية فأوشك القراء أن ينصرفوا عنه. وما من نموذج لذلك الكاتب الذي يشير إليه الناقد أفضل من الروائي"ماريو بارجاس يوسا" الذي عبر عن تلك الحالة على لسان أحد أبطاله في روايته " دفاتر دون ريجو"حين يقول: " كل حركة تسعى لتقديم مصالح جماعية على سيادة الفرد تبدو لي مؤامرة لفرض القيود على الحرية "!
وعند "ماريو بارجاس يوسا" إذن ما من حرية إلا الحرية الفردية التي لايربطها شيء بحرية الوطن، ومن ثم يمكنك أن تكون حرا تماما في وطن محتل! أي يمكنك ألا تهتم بأن بلادك محتلة فأنت حر! لقد أمست الحرية هي"أنا" وحسب. لقد أجروا العكارة في النهر طويلا حتى لم نعد نرى نهرا، وصرنا نرى الكارثة محدقة بنا، ونشعر بلفح اللهب على منازل ونوافذ بلادنا، وتحرق النار أيادينا، ونمد أبصارنا بعيدا فلانرى طريقا مفتوحا. في مرحلة ما ، كانت الأشياء تسمى بأسمائها. جبهة الأعداء في ناحية، والأصدقاء في ناحية. مدفع الكلاشنكوف – كلاشنكوف. طائرات الفانتوم- فانتوم. الأرض- عربية. الآن أصبح العدو في داخلنا. بيننا. يتشبه بنا. لا نكاد نميزه من كثرة ما تعرض عقلنا الوطني للقصف والتضليل والتمويه والخداع. وعندما أتحدث عن إحياء العقل الوطني فإنني لا أقصد لا من قريب ولا من بعيد استعادة عصر ما، أو صورة ما محددة ، أو مرحلة ما يجرفنا الحنين إليها. كلا، إنما أعني استعادة ركائز ثقافة المقاومة التي ستتجلى في زمننا في أشكال أخرى وفي حلول أخرى جديدة.
في مسرحية " منمنمات تاريخية " للكاتب العظيم سعد الله ونوس يصيح ابن خلدون قائلا: " في هذا الغروب الشامل قد تكون قبسة الضوء الوحيدة هي وصف هذا الغروب"!. ولكي نفلت من أن يكون وصف هذا الغروب قدرنا، ولكي نمسك بأطراف الفجر، علينا جميعا و"معا" أن نبذل قصارى جهدنا لإحياء ركائز العقل الوطني الذي سيفتح عينيه متطلعا إلي أوطانه ما إن يسمع صوتنا، ويرنو إلي نجومها، وحقولها. لا سبيل آخر، غير أن يساهم كل منا حسب استطاعته بكلمة، بجملة، بقصيدة، بفكرة، في الأدب والثقافة والسياسة والفن. "معا" لابد أن نضخ الدم إلي العقل الوطني. ولا سبيل آخر لكي نجد بلادنا.