تمخّض الجبل فولد فأراً، وتمطّع مجلس الوزراء فشكّل لجنة تطوير للثانوية العامة!! اختُزلت قضية التعليم فى هذه السنة وتلك الفترة، بل وتقلصت أكثر وأكثر حتى صارت أسبوعَى الامتحانات، والغرض والهدف وقف التسريبات، وكأنه لا يوجد فى التعليم المصرى غير مشكلة الثانوية العامة، لا توجد مشكلة تعليم فنى، لا توجد مشكلة ابتدائى وإعدادى وحضانة، لا توجد مأساة اسمها التعليم الأزهرى... إلخ. التركيز على الثانوية العامة مثل التركيز على حصار سرطان الرئة فى مراحله الأخيرة مع إهمال وطناش حصار وعلاج التدخين والمدخنين!! الثانوية العامة منتج نهائى لسلسلة من التفاعلات العشوائية، الثانوية العامة عرض لمرض عضال أصاب جسد التعليم وعقله ووجدانه، ولذلك اندهشت من حوار الرئيس السيسى الأخير مع الزميل أسامة كمال والذى أجّل فيه ملف التعليم ومرّ عليه مرور الكرام وحدد فى نبرة يأس مدة أكثر من عشر سنوات للإصلاح، ولم يحدثنا الرئيس عن بداية وتباشير هذا الإصلاح.
لا بد أن يكون ملف إصلاح التعليم على رأس الملفات وفى نفس أهمية توفير الغذاء وقبل ملف الأمن. بدون إصلاح التعليم لن يجدى أى إصلاح اقتصادى، بدون مواطن متعلم بطريقة جيدة وصحية ممارس للتفكير النقدى والإبداعى لن تنفع كل الخطط والطموحات والكبارى والعمارات والمؤتمرات، لن يتحقق تجديد خطاب دينى ولا أمل فى أى نهضة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، حتى الديمقراطية سيصبح معناها مشوشاً مضطرباً زائفاً لأن المواطن الذى يذهب إلى الصندوق مواطن آيل للسقوط وقابل لتزييف الوعى، يحتاج إلى ترميم عقلى ووجدانى. تعليمنا فى مرحلة ما قبل المدرسة ثم فى الابتدائى يقتل كل خلايا الإبداع فى الطفل، يبططه كالبلدوزر، يشوهه وجدانياً ويكبته نفسياً ويقزمه عقلياً، دينياً يزرع فيه كراهية الآخر، علمياً يدربه على أن العلم محفوظات، رياضياً يخصم منه مساحة الملعب لصالح مساحة التلقين والحفظ، فنياً يؤكد له أن الموسيقى دربكة والمسرح مضيعة للوقت والسينما مفسدة للأخلاق، ثم يصعد مراحل التعليم ليصير تقييمه أنا الأفضل لأننى أفضل شريط تسجيل، أنا الأول لأننى أمشى على الصراط المستقيم للمنهج، أنا الأحسن لأننى أتقيأ ما حفظته وصميته على الورق بمنتهى الدقة لأنساه بمجرد خروجى من الامتحان، بعد مرحلة الطالب أخرج إلى الحياة بدون خبرات إنسانية، معوق الذكاء الاجتماعى، قاصر الفكر، سقيم الوجدان، قابلاً للانخراط فى تنظيم عصابى إرهابى يضم إلى جانبى كل المشوهين نفسياً الخارجين من مفرمة التعليم المصرى، المستعدين لتدمير العالم وتدمير الدنيا كلها، ولأنه لم يتحقق حياتياً على الأرض فإنه ينتظر الموت لكى يتحقق إيمانياً فى السماء.
إهمال ملف التعليم وترك الأمور تمضى بالقصور الذاتى هو قصور شديد فى الرؤية المستقبلية لهذا البلد، هذا التعليم السكلانس البزرميط والذى ينتمى إلى عالم من كل فيلم أغنية وما يطلبه المستمعون، لن يصلح للتقدم والدخول إلى معترك الحضارة والحداثة، تعليم حكومى على خاص، وأجنبى على وطنى، ومدنى على أزهرى، ولغات على بلدى، ومدارس نموذجى على مدارس فترتين... إلخ، جدارية مصرية تعليمية وكأنها رُسمت بطرطشة هارب من عنبر الخطرين سقط فى برميل ألوان!! حواوشى تعليمى به كل أنواع الفضلات والأحشاء والزفارة ما عدا اللحم!! نريد جيلاً من الأطفال معافى صحيحاً متفتحاً على الحياة طارحاً الأسئلة بجرأة وجسارة، صانعاً للمستقبل بابتكار وجدية، ولكن قبلها لا بد أن نعتذر له أننا قد تركنا له أبشع تركة فى التاريخ.
نقلا عن الوطن