1- لو كنا نملك قدرا من هذه الطاقة، ثقافة الاعتراف بأخطائنا لتغيرت حتماً خارطة حياتنا وجاورنا العالم الأول فى المكانة، لكننا نفكر كالأطفال ونغضب كالنساء، ونمعن فى الخطأ وقد نبرره بقاموس من التبريرات وبراءة الأطفال فى عيوننا، ولا أدرى هل هو خطأ التربية فى البيت والمدرسة أم خطأ المؤسسات الدينية، فالأديان السماوية تحضّ على الاعتراف بالخطأ بقصد التطهر؟ أم هو خطأ التربية السياسية لمجتمع فيه نسبة عالية من الأميين وأنصاف المتعلمين؟ وأيا كانت الأسباب فإن التراكم الكمى من عدم الاعتراف بالخطأ يجلب الثورات فى نهاية الأمر، حين تغلى القلوب بغضب ساطع يعصف بكل شىء، تقترن كلمة النهاية فى هذا الفيلم بالندامة، ما أقسى الندم فى مسيرة الشعوب.
2- كلفنا «عناد» مبارك كثيراً وكثيراً، وقيل إنه «يحمل دكتوراه فى العناد» ونُسبت هذه المقولة لمحمد حسنين هيكل، ولم أتحقق منها وإن كانت صوابا لا يحتمل المراجعة، فكل الشواهد والمواقف المتصلبة تشى بهذا العناد وإذا كنت مخلصا فى الإنصاف فلا بد من القول إن «تصلب» مبارك فى مواقف وطنية عدة يحسب له فى ميزان التاريخ، وقد حاول كثيرون الاقتراب من عقل مبارك وإقناعه بالصواب المهجور وفشلوا فى أكثر من جولة وكنت أفتقد صواب «حكماء» البلد الذين يملكون الرشد، ويشيرون إلى مواطن الخطأ والخلل فى التفكير ويملكون شجاعة المواجهة، لكننا ذلك النمط من الشعوب الذى يختفى وراء أصابعه ظنا أن الناس لا تراه! وقد كبدنا العناد والتصلب على المستويين العام والخاص ضرائب كثيرة دفعناها صاغرين مستسلمين، وعندما تتصلب آراء الحاكم ولا يعدل عنها أو يعدل فيها يبدأ المنحدر ثم الكارثة، كان موسولينى يقول «أنا إيطاليا وإيطاليا أنا». وكان هتلر يرى أن الشعوب «ضعيفة الذاكرة» ويجب أن تساق، وقد كنت أفكر متأملاً كاتماً لهذه الهمسات بين ضلوعى: هل هى طبيعة شخصية أو نسق إنسانى فى العسكريين هو العناد، ولكن العناد فى الحق فضيلة، فهل كان مبارك يرى أنه على حق فى كل ما كان يذهب إليه من رؤى؟ هل جرؤ واحد على مصارحة «الرئيس» مبارك بفداحة الخطأ فلقى جزاءه وهو الإقصاء؟
الصحيح أن السياسة هى «فن الممكن والكر والفر والمراوغة والمباغتة واللين والخداع والثعلبة والانقضاض»، ولكن العناد فى موضعه مرغوب محمود وإلا صار تفريطا، أما العناد المطلق فهو المؤدى إلى سكة الندامة و«تفيد بإيه يا ندم» كما تشدو أم كلثوم على أوتار وجع الشعوب، وبالمناسبة الشعوب قلما تغفر للحكام.
3- فى تاريخنا الحديث زعيم «عسكرى» هو جمال عبدالناصر وقد رأيناه يعترف بالمسؤولية عن نكسة 67 ولعل خطبة عبدالناصر يومئذ تدل على أول اعتراف بالخطأ «أقول لكم إنى على استعداد لتحمل المسؤولية كلها وقد اتخذت قرارا أرجو أن تساعدونى عليه، لقد قررت أن أتنحّى تماماً ونهائياً عن أى منصب سياسى، وسأعود إلى صفوف الجماهير أؤدى واجبى».
نعم، لقد كانت فرصة أمام مصر لتعيد ترتيب أوراقها وتهب من رقدتها فى حرب 73 لتمحو إلى الأبد عار النكسة وترفع رايات الانتصار، ولكن الثابت أن اعتراف عبدالناصر بمسؤوليته عن أخطاء سياسية وعسكرية ارتكبت فى الحرب الخاسرة، يشير إلى قوة ناصر فى مواجهته لنفسه وعدم التملص من المسؤولية أو التراجع عنها.
4- وبعيداً عن الحكام فإن ثقافة الاعتراف بالخطأ غائبة تماماً، لعلها التربية الاجتماعية الخاطئة التى تمجّد قيمة المكابرة بالخطأ بعد الثورة الينايرية، الكل صاروا زعماء ونشطاء، ومحال أن يخطئوا أو يعترفوا بخطأ ما، وقد أدى هذا إلى حدوث خلل فى المجتمع وانقسامات لا أول لها ولا آخر حتى فى أبسط العلاقات الإنسانية، لا أحد يعتذر عن خطأ إلا فيما ندر، الجدل السفسطائى حاضر بشدة، وتنتهى علاقات الزواج بالطلاق المبكر لغياب هذه الثقافة، وفى العمل هناك الإصرار على الخطأ وتبريره وتلوينه بالمكابرة والمقاوحة ونشاط مسؤولى العلاقات العامة الموكل إليهم «تبييض» وجه المسؤول وتحسين صورته بالحق أو بالباطل، ولا مانع من قلب الحقائق أو لى ذراعها. وفى العالم الأول: المبادرات للاعتراف بأخطاء سمة حضارية وترضى الشعوب نفسيا وتمتص مشاعر الغضب وعدم الرضا. إنها عملية «مراجعة» يربح فيها الحاكم، وعلى المستويات الشخصية فإن الاعتراف بالخطأ يحدث «توازناً نفسياً»، أما العناد فهو يحول صاحبه إلى «ثور إسبانى» يثيره اللون الأحمر.
5- ثقافة الاعتراف بالخطأ تنطوى على «بعد فى الرؤية» و«مرونة فكرية» و«اتساع زاوية الإبصار» و«ترشيد الغضب» والاعتراف بالخطأ كقيمة تربوية ليس ضعفاً بالمرة كما يتصور البعض السذج، إنها عند د. زكى نجيب محمود «إعادة ترتيب الأولويات» وفى المعجم الفلسفى: «التكيف الإيجابى مع مواقف الحياة المختلفة». وعند د.أحمد فؤاد الأهوانى «القدرة والقابلية على التشكل دون تعصب أو تحجر» وكان هيكل يقول: «التفكير ليس سهاماً تنطلق من فراغ بل لقاء مرن مع مسلمات وربما ثوابت». وكان ماو تسى تونج فى الصين يقول «أعتى النظريات تصاغ فى التطبيق بمرونة ذهنية»، والرئيس الفرنسى ميتران كان يقول «ثمة خطأ ما ينبغى أن يشار إليه ليستقيم البناء».
نعم التحجر عدو المرونة وينطوى على قدر من «الغباء»، والغباء السياسى شائع فى أنحاء المعمورة وله نتائجه الكارثية فى أحيان كثيرة، ومقولة كيسنجر «الخطوة الثانية.. أصوب».
6- لو كنا نملك قدراً من هذه الطاقة، ثقافة الاعتراف بأخطائنا لتغيرت حقا خارطة حياتنا وجاورنا العالم الأول فى المكانة..
لو...!.
نقلا عن المصري اليوم