ما حدث فى المنيا وبنى سويف من محاولات بعض عوام المسلمين الذين لم يعلمهم أحد دينهم الصحيح منع الأقباط من أداء شعائرهم الدينية، بدعوى أن الكنيسة التى صلوا فيها مجرد مبنى عادى لم يحصل على ترخيص كنيسة، إثم وعدوان عظيم لا يرضى عنه الله ورسوله والمؤمنون، يدخل فى نطاق البغى، لأن الإسلام يعترف بكافة الأديان السماوية ويجل المسيح عيسى ابن مريم ويضعه فى مرتبة متقدمة من القديسين والأنبياء (لا نفرق بين أحد منهم).
ولأن الأقباط يعبدون الله فاطر السماوات والأرض وفالق الحب والنوى وإن كانت لهم رؤاهم فى طبيعة المسيح التى يقر الإسلام بحقيقة أمه العذراء التى (نفخنا فيها من روحنا)، وإذا كان الإسلام يجيز للمسلم أن يصلى فى أى مكان يختاره شريطة أن يكون طاهرا وأن يولى وجهه شطر المسجد الحرام، يصبح من حق القبطى ان يصلى فى اى مكان يملكه، أما قضية الترخيص والإجراءات فلا علاقة لها البتة بحق القبطى فى أن يؤدى صلاته، ولا يتناقض ذلك مع حق الإدارة فى أن تتخذ الإجراءات الواجبة التى ينص عليها القانون الوضعى ضد المخالفين احتراما لسيادة القانون وأحكامه وتنظيما لأحوال الناس إلى أن يتم تغيير القانون إلى الأفضل.
لكن القانون الذى يحكم بناء الكنائس فى مصر يعترف الجميع بأنه قانون ظالم يعود إلى عصور التخلف العثمانى والانحطاط الدينى يتحتم تغييره، ومع الأسف يطالب الجميع منذ عقود طويلة بتغيير الديكريتو الهمايونى الذى ينظم بناء الكنائس فى مصر، لكن الإدارة المصرية المرتعشة الأيدى والتى تخاف من ظلها لا تزال تتلكأ وتتلكأ وتتلكأ لسبب غامض فى نفس يعقوب لا يريد أن يفصح عنه أصبح لزاما علينا ان نفتش عنه ونفضحه، لان مصر الحضارة والمكانة والتاريخ لا ينبغى ان تكون نهبا للتعصب والتخلف والبغضاء، وما من شك أن تتابع الفتن الطائفية وتسارع تكررها على هذا النحو المؤلم الذى نشهده يأكل من مصداقية مصر، ويقلل من قدرها الإقليمى والدولي، ويدمغها بالعجز والتحيز، ويعطى لأعدائها فرصة التشهير بمواقفها، لأنه فى مصر التى اخترعت الدين وتوصلت للوحدانية واكتشفت قبل نزول الرسالات السماوية أن هناك حياة أخرى بعد الموت تمنع طائفة من المؤمنين من أداء شعائرها الدينية قهرا بفعل مجموعات متعصبة يسيطر على رءوسها الجهل والظلام، كان يبنغى للقانون والدولة ان يأخذ منها موقفا صارما يمنع تكرار ما حدث، ومع الأسف يضج الأقباط بالشكوى من ان معظم قضايا العدوان التى وقعت عليهم وعلى كنائسهم قيدت فى الأغلب ضد مجهول!.
أعرف أن البعض يفتح فاه دهشة لأننى اعتبر أقباط مصر طائفة من المؤمنين عكس ما يروج له بعض المشايخ (الملاكي) الذين يصدرون الفتاوى حسب الطلب، ويدخلون الأقباط ظلما وجهلا فى دائرة الكفر وهو إثم عظيم لأن المسيحية ديانة سماوية يعترف بها الإسلام، ولان بين الأقباط قسيسين ورهبانا يصلون الليل بالنهار عبادة لخالقهم ولأن الأقباط شأنهم شأن المسلمين يخشون الله واليوم الآخر، ولا يقلل من هذا الإثم ان الديانة المسيحية لا تعترف بالإسلام ولا تعترف بنبيه محمد لأن الإسلام يلزم المسلمين بأحكامه بصرف النظر عن المواقف الأخري.
ولا أظن أننا نستطيع إعفاء بيت الأسرة المصرية وكبيره الشيخ الطيب من مسئولية التقاعس عن القيام بدوره الصحيح فى تصحيح مفاهيم هؤلاء العوام التى تنضح جهلا، ومع كل الاحترام للجهود التى يبذلها بيت الأسرة فى مداواة الجراح إلا أن معالجة أصل الداء لا يمكن ان تتم عبر جلسات الصلح العرفية التى لا تجهد نفسها فى البحث عن أصل المشكلة ومعالجة جذورها، رغم أن بيت العائلة المصرية هو الأولى بهذه المهمة، وأظن أن جوهر مهمته الحقيقية هو تغيير المفاهيم الدينية الخاطئة التى لا تزال تحكم أفكار هؤلاء العوام ويروج لها شيوخ غير أجلاء يصعدون المنابر ليروجوا لخرافات عديدة تخرج عن نصوص القران والسنة والشريعة.
ولو أن البيت الكبير كان أكثر شجاعة فى التصدى لهذه المفاهيم الخاطئة لكن من واجبه أن يقطع جهيزة هذه الاتهامات الظالمة التى تعتبر المسيحية كفرا لأن المسيحية بالنص القرآنى ديانة سماوية نزلت من عند الله واجبة الاحترام والتقديس، ولا يكفى بيت الأسرة المصرية الذى يضم الشقيقين المسلم والقبطى أن يقتصر دوره على إطفاء حرائق الفتنة التى تشتعل فى بعض من قرى الصعيد لان جوهر مسئوليته هو تصحيح المفاهيم واجتثاث أصل الفتنة وجذورها، ولست اشك فى ان التهرب من مواجهة هذه المسئولية المهمة المتعلقة بتغيير المفاهيم الدينية الخاطئة هو احد الأسباب التى من اجلها تدور قضية تجديد الخطاب الدينى فى حلقة مفرغة.
لان جوهر المطلوب من تجديد الخطاب الدينى ببساطة هو الإقرار بحقوق المواطنة التى ترفض التمييز بين المواطنين بسبب اللون او الجنس او الدين، وتفرض المساواة والحقوق والواجبات المتكافئة على الجميع، ولا تفرق بين أتباع الديانات السماوية الثلاثة، وتتوقف عن اتهام احد بالكفر لان ذلك يخرج عن مسئولية الإنسان واختصاصه ولأنه لا احد يتهم آخر بالكفر إلا أن يبوء بهذا الاتهام، ومفاد جميع ذلك أن نعيد لأقباط مصر اعتبارهم باعتبارهم طائفة من المؤمنين لا يدخلون فى دائرة الكفر التى يصر عليها العوام، ولو أننا نجحنا فى تغيير هذه المفاهيم الدينية الخاطئة، وانتصرنا لخطاب دينى جديد يقوم على احترام حقوق المواطنة ويرفض كل صور التمييز بين المواطنين ويعتقد صدقا برسالة الأديان السماوية الثلاثة لما كانت هناك فى مصر على وجه الخصوص مشكلة تتعلق ببناء الكنائس أو دور العبادة، لان كنيسة جديدة شأنها شأن جامع جديد بيت من بيوت الله يرتفع فيها ذكره واسمه جل تعالي.
أعرف جيدا أننا فى دولة مسلمة ينتمى غالبية سكانها إلى الإسلام، وأعرف أن المصريين بطبيعتهم شعب متدين، وان قضية الرمز والهوية تهم المسلمين الذين يرون فى الهلال الإسلامى رمز لهوية دولتهم المسلمة، وأعتقد أن ذلك أمر واجب الاحترام، ولا أظن أن أقباط مصر الذين يعتقد معظمهم أنهم أقباط دينا ومسلمين ثقافة يعترضون على هذا الحق الواضح فى أن يبقى الإسلام الهوية والرمز للدولة المصرية..، ومن ثم يمكن أن نختصر قانون بناء الكنائس فى بند واحد، ينص على حق الأقباط فى إقامة كنائسهم فى المدن والقرى بما يوافق أعدادهم ويحفظ أولوية الرمز الإسلامى باعتباره هوية الدولة المصرية، وأظن ان من الضرورى أن يلحق بهذا النص إضافة تؤكد، أن خدمات الصحة والتعليم التى تقدمها المساجد والكنائس للمواطنين لابد ان تكون مفتوحة للجميع دون تمييز.
أعرف أخيرا أن مصر ربما لا تكون بالفعل فى حاجة إلى بناء المزيد من المساجد والكنائس فما هو موجود يكفى ويزيد، ومع ذلك يبقى إصدار قانون تنظيم بناء الكنائس أمرا مهما هدفه الأول والأخير تأكيد حقوق المواطنة المتساوية، وإزالة سبب رئيسى للفتنة يكاد يكون مصدر 90% من حالات الصدام فى قرى صعيد مصر، وما عداه أمور صغيرة تتعلق بصدف إنسانية بحته أوقعت شابا مسلما فى حب فتاة قبطية أو العكس فى سن تسيطر عليه أفكار المراهقة على الطرفين.
ولست اشك فى أن الغالبية العظمى من المصريين المسلمين لا يعترضون على بناء كنائس للأقباط مهما يكن عددها ويتحمسون لإنهاء هذه الفتن الصغيرة،لان الكنسية القبطية فى ظل رعاية البابا تواضروس وسلفه العظيم البابا شنودة نجحت فى أن تغير الكثير من مفاهيم العوام الأقباط، وتجتث فكرة الاستقواء بالخارج انطلاقا من اعتزازها بالهوية الوطنية للكنسية القبطية فى قضايا اللاهوت والناسوت على حد سواء، كما نجحت فى ان تحشد مساندة أغلبية أقباط مصر لحقوق المواطنة المتساوية دون تمييز باعتبارها الحل الصحيح لمشكلات مصر الطائفية، بعيدا عن حصص الوظائف والمحاصصة التى يرفضها الجميع، والتى غالبا ما تزيد من حدة هذه الأزمات وتخلق فئات مستفيدة ذات مصالح ضيقة تستفيد من وجود الفتنة واستمرارها.
ولان تغيير المفاهيم والثقافة يتطلب وقتا وجهدا كما يتطلب برامج واضحة شجاعة يقوم على تنفيذها كوادر أمينة، يحسن أن يكون فى مقدمتها كتيبة شجاعة من رجال الدين الإسلامى الذين يحسنون التفرقة بين ثوابت الإسلام التى هى من أصول الدين ومتغيراته التى فوض الله ورسوله الإنسان فى كل عصر وزمان أمر تجديدها مع تغيرات الحياة وتطورها (لأنكم اعرف بأمور دنياكم)، وكتيبة أخرى شجاعة من رجال الدين الأقباط الذين يؤمنون بان الأقباط والمسلمين فى مصر جيران وأشقاء إلى يوم الدين لامناص من حسن تآلفهم وتعايشهم، يعملون معا فى شفافية كاملة تملك شجاعة الاعتراف والتصحيح على الجانبين، وتشكل ظهيرا وسندا للدولة يساعدها على مواجهة مجموعات من الأصوليين المتشددين التى تخلط بين حماسها للدين الإسلامى وإسرافها فى عدم الاعتراف بالآخر الذى يصل فى بعض الأحيان إلى حد العداء والاتهام بالكفر، كما هو حال فئات عديدة من السلفيين تأخذ مواقف مسبقة من الأقباط والمسيحية تحت شعار أن الدين عند الله الإسلام دون أن تمعن النظر فى عشرات الآيات والأحاديث التى تتحدث عن حقوق أصحاب الديانات السماوية.
وقد تكون المهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة لفطرة المصريين الذين نشأوا على السماحة والإيمان وضرورة تعارف الأمم والشعوب وتبادل المنافع بينها وضرورة الحوار مع الآخر وليس إنكاره، واختص العلى القدير أرضهم بأن تكون كنانة الله على أرضها كلم الله موسى فى الوادى المقدس طوي، ولجأ إليها المسيح وأمه مريم فرارا من عسف الرومان، ولقى الإسلام سندا قويا فى فتح مصر لم يجده فى الأرض التى ولد عليها.
نقلا عن الأهرام