بقلم : الأنبا إرميا | الأحد ٣١ يوليو ٢٠١٦ -
٥١:
٠٢ م +02:00 EET
الأنبا إرميا
تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكام «مِصر»: «عبدالله بن عبدالرحمن»، وأخيه «مُحمد بن عبدالرحمن»، ومن بعده «موسى بن على». وتطرقنا لسيرة «البابا مينا الأول» وما عاناه من راهب يُدعى «بطرس» رغِب فى اغتصاب الكرسى البطريركى لنفسه، لكن الله بدَّد كل ما كان يصبو إليه. وفى أثناء تلك الأحداث، مات الخليفة «أبوجعفر المنصور» بعد حكم استمر قرابة اثنين وعشرين عامًا، تاركًا أمور الخلافة لابنه «مُحمد المهدى».
وهو «أبوعبدالله مُحمد المهدى بن المنصور»، تولى أمور الخلافة من بعد أبيه «أبى جعفر المنصور» ليصبح ثالث خلفاء الدولة العباسية. ويذكر المؤرخون أن أباه «أبا جعفر» قد اهتم بتربيته وولاه عناية واهتمامًا كبيرين. وكان «المهدى» كريمًا ـ على النقيض من والده ـ متسامحًا، ولكن لم يقف تسامحه حائلاً فى طريق حزمه مع أعدائه والخارجين عليه. بدأ حكمه بالعفو عن كل من سُجن فى عهد أبيه بعد اقتراف جرائم بسيطة، وأبدل بعقوبة الإعدام السَّجن لبعض من المحبوسين السياسيِّين. وأفرج عن «الحسن بن إبراهيم العَلَوى»، وأعاد إلى العَلَويِّين ممتلكاتهم بعد مصادرتها، كما أعاد أموال الغرامات لأصحابها التى كان أبوه «المنصور» قد وضعها فى خِزانة أطلق عليها اسم «بيت المال للمظلومين». وذكر المؤرخون أنه فى أثناء خروجه فى إحدى حملاته العسكرية، مر ببيت لـ«أبى سَلَمة» صار خرِبًا، فوقف عند المنزل وأحضر أولاده وأتباعه ووزع بينهم مالاً بلغ عشرين ألف دينار اعترافًا منه بفضل أبيهم ومساعدته لأسرته عند بَدء الحكم. ويُذكر عنه أيضًا: أنه فى أثناء قيامه بالحَج، عام ١٦٠هـ، قدَّم للفقراء والمُعوَزين من أهل «مكة» قُرابة ثلاثين مليونًا من الدراهم، ومائة وخمسين ألف ثوب.
وكان «المهدى» شديد الاهتمام بأمور الحكم والرعية، فقد ذكر المؤرخ «التَّغرى» ارتفاع قدر شخص يُدعى «يعقوب بن داود» وازدياد مكانته عند الخليفة «المهدى»، كان هذا قد أحضره الخليفة «المهدى» فى أمر الحسن بن إبراهيم فقال له «يعقوب»: «يا أمير المؤمنين: إنك قد بسطتَ عدلك لرعيتك وأنصفتَهم، وأحسنتَ إليهم، فعظم رجاؤهم، وانفسحت آمالهم، وقد بقيت أشياء لو ذكرتُها لك لم تدَع النظر فيها، وأشياء خلف بابك يُعمل فيها ولا تعلم بها. فإن جعلتَ لى السبيل إليك رفعتُها»، فأمره بذلك. فكان يدخل عليه كلما أراد ويرفع إليه النصائح فى الأمور الحسنة الجميلة.. فحظِى عنده بذلك وتقدمت منزلته.. وكتب «المهدى» توقيعًا بأنه اتخذه أخًا فى الله، ووصله بمائة ألف درهم.
إلا أن عهد «المهدى» قد شهِد بعض الفتن والثوْرات التى قام بإخمادها ومنها: «ثورة سوريا»، و«ثورة خُراسان»، و«ثورة الزنادقة». فقد حاول أحد أبناء «مروان الثانى» الخروج على الحكم العباسى، إذ قام بثورة فى «سوريا»، لكن الخليفة المهدى تغلب على الثائر وقبض عليه وأودعه السجن، ثم أخرجه بعد زمن. أيضًا حدثت ثورة فى إقليم «خُراسان» بين عامى ١٥٨ و١٦٠هـ (٧٧٥ و٧٧٧م) قادها شخص يُدعى «هاشم بن حكيمط ـ وقيل عطاء» ـ الملقب بـ«المقنَّع» لأنه كان يُخفى وجهه بقناع من ذهب، كان هذا يعتقد بتناسخ الأرواح، وادعى النبوة قائلاً إن روح الله ظهر فى «آدم»، ثم فى «نوح»، ثم فى «أبى مسلم« ثم انتقلت إليه!! وكانت له تعاليم تتسم بالثورية فتبعه كثيرون، وقد اتخذ لنفسه ولأتباعه الملابس البيضاء فأطلق عليهم «المبيّضة»، ومع امتداد نفوذ «المقنَّع» وقوته، أرسل الخليفة «مُحمد المهدى» قواده وجيشه حتى حاصروه فى قلعة بمدينة «كِش»، ولم يكُن هناك مفر له سوى التسليم، فقام بتسميم نفسه هو وأهل بيته ومن معه حتى ماتوا. أما «ثورة الزنادقة» فقد كانت فى «جُرجان» التى تقع شرق «بحر قَزوين»، وأطلق عليها اسم «المحمّرة»، إذ اتخذوا لهم الملابس الحمراء، وهم فرقة من الفرق الدينية نشرت تعاليمها فى «خُراسان» والمقاطعات الغربية لبلاد «فارس» ووصلت إلى «العراق»، وتعاليم «المحمّرة» تحمل فى داخلها مزيجًا من تعاليم «مَزدَك» الذى أحل المال والنساء، و«مانى» الذى نادى بوُجود عالم النور وعلى رأسه الإله الطيب أو إله الخير مع ملائكته، وعالم الظلمة والمادة على رأسه إله الشر أو الشيطان، والإنسان نفسه جزء من عالم الظلمة وجسمه جزء من المادة الشريرة، لذلك نادت بالنسك وعدم الزواج. وقد قام الخليفة المهدى بمحاربة هذه التعاليم إذ تأثرت الدولة تأثرًا سلبيًّا شديدًا باتباع هذه العقائد والأفكار.
أيضًا تعرضت الدولة العباسية فى أيام خلافة «المهدى» لإغارات على حُدودها من «البيزنطيِّين» عام ١٦٣هـ (٧٨٠م)، الذين استولَوا على «مَرعَش» وأحرقوها، فأرسل المهدى قائده «الحسن بن قَحطَبة» فوجدهم قد تراجعوا، فهدَّم بعض معاقلهم ومدنهم. لكنهم أغاروا مرة ثانية، فخرج إليهم المهدى على رأس جيش كبير، تاركًا أمور الحكم لابنه موسى. اتخذ المهدى مدينة حلب مركزًا لأعماله الحربية، وأرسل ابنه «هرون» مع قواد أكْفاء لمقاتلة «البيزنطيِّين» فانتصر هرون عليهم، فطلبوا إليه الصلح فوافق وعاد إلى حلب بعد أن دفعوا غرامة حربية لاستعادة بلادهم وأسراهم. وأقام المهدى ابنه هرون واليًا على الغرب وأرمينيا وأذربَيچان يعاونه «ثابت بن موسى» و«يحيى بن خالد». وفى عام ١٦٥هـ (٧٨٢م)، نقض الروم الصلح، فزحف هرون إليهم وانتصر عليهم فى الحرب وقتل منهم كثيرين، واتجه بجيوشه نحو القسطنطينية. فما كان من الملكة «إيرينى» أرملة الإمبراطور «ليو الرابع»، وهى الوصى على العرش، سوى أن تطلب وقف القتال، مع تعهدها بدفع جزية سنوية وتموين الجيش عند تراجعه، فقبِل منها الشروط واستمرت الهدنة بينهما ثلاث سنوات.
فى عام ١٦٠هـ (٧٧٧م) أرسل حملة عسكرية إلى الهند عند طريق البحر، حيث هاجمت جيوشه مدينة «باربذ» الهندية، وأحرقت تمثالاً لـ«بوذا« مع بعض من أتباعه، لكن الأمر لم يُكتب له النجاح، إذ تفشى المرض بين أعضاء الحملة فعادوا، وعند وصولهم إلى ساحل «الفرس» تحطمت سفن الأسطول من الرياح. وبين عامى ١٦١ و١٦٣هـ (٧٧٨ و٧٨٠م)، حاول «المهدى» استرجاع «الأندلس» لكنه فشِل فى محاولته.
اهتم المهدى كثيرًا بوضع وُزراء فى عهده فأصبح للوزير شأن كبير فى تصريف أمور الدولة، وقد ذُكر عنه: إن «المهدى» كان فى إدارته لشؤون رعيته كمن يعمل بوجه عام على رفاهية الأمة وإسعادها، وكان معينًا ومعجّلاً للعصر الذهبى الذى تلا أيامه. وقد عين المهدى ابنه «موسى الهادى» وليًّا للعهد ومن بعده «هرون»، ثم تُوُفِّى وهو فى الثالثة والأربعين عام ١٦٩هـ (٧٨٥م).
أمّا عن أحوال مِصر وحكامها فى أيام الخليفة «مُحمد المهدى»، فقد كان يحكم مِصر «موسى بن على» عندما تُوُفِّى «أبوجعفر المنصور» وتولى أمور الخلافة من بعده ابنه «مُحمد الهادى»، فأقر موسى على حكم مِصر حتى عزله عام ١٦١هـ (٧٧٨م) وولّى «عيسى بن لُقمان» أمور مِصر.
«عيسى بن لُقمان الجُمَحِى» (١٦١- ١٦٢هـ) (٧٧٨- ٧٧٩م)
هو «عيسى بن لُقمان بن مُحمد بن حاطب الجُمَحِى»، تولى أمر مِصر من قِبل الخليفة «المهدى»، وقد ذُكر أن الخليفة قال له حين ولاه مِصر«: قد وليتُك عمل «عبدالعزيز بن مروان» و«صالح بن على». ولم تطُل مدة ولايته على مِصر سوى بضعة أشهر ـ قيل إنها أربعة أشهر ـ وقيل خمسة، وتولى مِصر من بعده «واضح المنصورى».
و.. وعن «مِصر الحُلوة» الحديث لا ينتهى...!
* الأسقف العام رئيس المركز
الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع