إذا لم تمنحك السينما المتعة فهى قد خانتك، فالعقد غير المعلن المبرم بين المشاهد وصناع العمل السينمائى على رأس بنوده وأولوياته المتعة الفنية، المتعة ليست بمعنى الفرحة والرقص والضحك والفرفشة، لكنها المتعة الفنية بمعنى توافر عناصر الجمال وقيمه حتى ولو كانت شجناً وحزناً وهماً، ببساطة أن يكون الفيلم أولاً فناً سينمائياً وليس مظاهرة سياسية، الشرط ألا يمكن أن أستبدله بمقال أو بمنشور أو بمجلة حائط، هذه المتعة الفنية للأسف لم تتحقق فى فيلم «اشتباك»، فيلم ممل فنياً، فقير بصرياً، مائع فكرياً، فيلم بطعم الدعاة الكاجوال ومنهم منتج الفيلم معز مسعود، دخلت الفيلم كما أفعل مع كل فيلم متجرداً من أى قناعات مسبقة، غير متأثر بدعاية مراهقة على وسائل التواصل من قبيل «الحق وادعم وحيصادروا الفيلم»... إلخ أو هجوم هستيرى يفتش فى النيات ويرفض أساساً مشاهدة الفيلم، لم ولن يعنينى مدح توم هانكس ولا قدح أمانى الخياط، حاولت أن أقرأ الفيلم فنياً فقط، ولكن كيف أقتصر على تلك القراءة وصناع الفيلم مصرون على تحويله إلى لافتات أيديولوجية و«أوت دورز» سياسية خالية من طعم الفن الحقيقى،
اختيار عربية الترحيلات كـ«لوكيشن» لتصوير الفيلم اختيار فنى جرىء ولكن هل الجرأة فى اختيار لوكيشن ضيق محدود هى جرأة مطلوبة لذاتها أم لترجمتها إلى فن؟، لو كانت مطلوبة لذاتها فهى مجرد مغامرة استعراض عضلات نحاسبها أكاديمياً فى محاضرات لطلبة معهد السينما، لكن إذا كانت فناً نترجمه صورة وسيناريو... إلخ للجمهور فيجب أن يخضع لشروط الفن السينمائى، ولنا فى تجارب سابقة لأفلام المكان المحدود لمخرجين مصريين من صلاح أبوسيف وسيد بدير ونجيب محفوظ فى «بين السما والأرض» عندما اختاروا الأسانسير، إلى وائل إحسان وأحمد عبدالله عندما اختارا القطار، لكن العبقرية فى السيناريوهات السابقة هى فى إعطاء ومنح هذا المكان المحدود براحاً موازياً فى الخارج يكسر ملل هذا المكان الضيق على مسافات زمنية، سواء كان استاد كرة أو شوارع أو سطوح، فى فيلم أبوسيف، أو محطة قطار وقرية... الخ، فى فيلم وائل إحسان، هذا الخروج ثم العودة للمكان الضيق ليس لكسر الملل فقط ولكنه لمنح الشخصيات أبعادها وجذورها الإنسانية، ببساطة شخصيات الفيلم ليست شخصيات من لحم ودم وإنما هى مانيكانات لأفكار المخرج وكاتب السيناريو، ببساطة الفكرة أولاً ونلبس لها شخصية بطريقة ميكانيكية فى منتهى البرود والسذاجة وكأننا نضع مقادير طعام فى برنامج الشيف شربينى أو ننفذ معادلة كيميائية فى معمل ثانوى!!، ما هى أبعاد تلك الشخصيات.. ظلالها.. ملامحها؟،
لا يوجد، فهى شخصيات باهتة، والسينما ليست مجلة الطليعة أو مجلة الدعوة، إنها فن تشخيص يعنى البداية شخصية أستطيع تذكر أننى شاهدتها وعاصرتها فى الشارع أو فى الدنيا، ولا أستطيع التماس أى عذر لكاتب السيناريو فى حبسته المملة المزمنة ولا فى ضعف رسمه للشخصيات تحت أى حجة، أنا لا أفسرها إلا تفسيراً واحداً وهو افتقاد حرفنة الكتابة، لذلك أول ما خرجت من الفيلم ترحمت على سيد بدير وشكرت أحمد عبدالله على تجاربهما المماثلة التى تحمل كثيراً من الشطارة والذكاء، الفيلم باختصار تحول إلى مسرحية من مسرحيات مسرح الطليعة أو مسرح الحجرة لكن بدون التفاعل الحى مع الجمهور بل الأدهى أنه من خلال شاشة باردة انتقصت وخصمت من هذا الأداء المسرحى، لم تفلح كل شقلباظات التصوير فى خلق أى مساحة متعة بصرية أو كسر حدة الملل فى الفيلم، وكما كان سجننا كمشاهدين عربية الترحيلات لمدة ساعتين فشل فى إضافة أى مساحة ثراء فيهما، كان أسلوب عمال التراحيل فى شحن شخصيات فى العربية بلا أى تمييز بينهم، ليه شحنت خمسة مش اتنين أو عشرة مش تلاته... الخ؟، مش فاهم؟، إيه البصمات اللى فرقت هذا عن ذاك وجعلتك تختار دول؟، برضه مش عارف ولا فاهم؟، إنها كما قلت مانيكانات أفكار وبيشحنوها ع المخزن مش بيحطوها ع الشاشة ويزرعوها فى وجداننا، شخصيات عرائس ماريونيت هشة بدون بطاقات هوية سينمائية تنساها بمجرد خروجك من صالة العرض، الشخصية لا تنطق بلسانها بل بلسان الأخوين دياب لدرجة أن يدور حوار ما بين مراهق ومراهقة عن لعبة العسكر والإخوان فى المدارس التى لا وجود لها إلا فى خيال الأخوين!!، أما عن النهاية العجيبة الغريبة وهى دخول العربة فى مظاهرات حاشدة أخرجت من هم داخل عربية الترحيلات إلى أنياب ومخالب من هم فى الخارج لينهشوهم!، هى باختصار نهاية واحد زهقان مشحون فاقد للحرفنة وأصول الصنعة مش عارف يقفل الفيلم فتاهت منه الخيوط.
نأتى إلى التقييم الفكرى أو رسالة الفيلم التى تتميز بكثير من الميوعة والمياصة التى تصل إلى درجة الخنوثة الفكرية!!، أولاً هناك تدليس تاريخى واضح لأننى أحسست أننى أشاهد ما بعد 25 يناير وليس ما بعد 30 يونيو، فمظاهرات الإخوان المحدودة ما بعد 30 يونيو كانت مركزة فى مناطق بعينها على رأسها رابعة مما لم يسمح بهذه العشوائية واللخبطة الشرطية فى رصد المظاهرات المؤيدة المكتسحة ومظاهرات الإخوان المحدودة، وبالطبع لم نرصد مشاهد انسحاب الشرطة بالشكل الينايرجى لدرجة خلع الملابس للتخفى أبداً فى 30 يونيو، من الممكن أن يرد صناع الفيلم نحن مسموح لنا بمساحة تخيل براحتنا، إذا مررنا على هذه النقطة سنقول مسموح لكم بمساحة من التخيل لكن غير مسموح لكم بمساحة من التدليس!!، فليس بمجموعة من الإفيهات العابرة مثل إن الإخوان لا يخرجون ريحاً ستقنعنى بأنك قد حاكمت وانتقدت الإخوان، فهم إذا لم يخرجوا ريحاً فهم يقتلون أرواحاً!!، فعربة الوطن كل من فيها المفروض أن ينتموا إلى هذا الوطن، يقفون على أرضية هذا الوطن وليس أرضية التنظيم الدولى، مواطن فى وطن مختلف تماماً عن فرد فى عصابة أو تنظيم، فلا تخدعنى بأن الإخوانى عيل وغلط والصلح خير قوم نتصالح ده الصلح خير!!،
لا تقنعنى بأنه مجرد حوار بين الرأى والرأى الآخر، فمع وجود الإخوانى لا يوجد هذا إنما هو الرأى ونفى الرأى وليس الرأى الآخر، الإخوانى أصلاً ومعه كل مجرمى الإسلام السياسى ينفونك وينفون رأيك ويبدأون بجملة ربنا بيقول يبقى إزاى انتَ تقول، فهل يستقيم حوار بهذه الطريقة بين من يحتكر السماء ومن يتحدث عن هموم الأرض؟!، قمة التدليس أن تحاول إقناعى بأن قائد الإخوان الذى فصل فى البداية الإخوان المنتظمين هنا واللى مش منتظمين هناك، من الممكن أن يعود للاندماج والتماهى مع الوطن والمدنية والعلمانية والليبرالية فى نهاية الفيلم، هذه عقيدة تنتظر التمكين، وتقية تنتظر لحظة الانقضاض المناسبة وحينها يظهر الشر كله لأن ما يحركه أممية الخلافة وليس وطنية وانتماء الوطن، قمة التدليس أن تقنعنى بأن من يغنى «اجعل جماجمنا سلماً»، والذى سلمته كمخرج وسيناريست راية الكوميديا والدم الخفيف فى الفيلم من الممكن أن يغنى لنانسى عجرم ويصبح المواطن الكيوت اللذيذ القديم بتاع الميدان!!، لا يا سيدى لا تحمل الجمهور نتاج خطاياكم كرفاق ميدان مع الإخوان انضحك عليكم أو مؤيدين لأبوالفتوح أو عاصرى ليمون فى فيرمونت، لا تغسلوا ذنوبكم على قفانا وتستغفلونا، فنظرتكم القاصرة وأمانكم للإخوان فى الميدان ومنحهم القيادة وتصديرهم للناس على أنهم «الطيبين الحلوين المعتدلين»، هذه النظرة هى اللى ودتنا فى داهية كما ودت اليسار الإيرانى فى داهية بعدما سلموها للخومينى.
الأخوان دياب عايزين يقدموا شهادة توبة وغسل ذنوب ثورية، توبا بعيداً عنا وعن صناعة فيلم تصدران فيه أن الإخوان معنا شركاء فى عربة الوطن، إنهم سرقوا الموتور بعد أن احتكروا عجلة القيادة التى قالوا إنها من «أجَنس» الجنة ومركز صيانة الفردوس!!، ثم بعد ذلك أحرقوا العربة لأنها مش بتاعتهم، هى بالنسبة لهم مجرد وسيلة، لا تحمل لهم أى ذكريات أو شجون، لذلك فالفيلم مرفوض شكلاً ومضموناً، لأن غسيل الذنوب له غسالات غير سينمائية ومراكز صيانة غير فنية، وأفكار المصالحة ليس لها سوق إلا سوق الكانتو وعربيات ترحيلات الروبابيكيا!!.
نقلا عن الوطن