فى مثل هذا اليوم3 من اغسطس عام 1889..
سامح جميل
تعد موقعة توشكي من الأحداث المهمة في التاريخين المصري والسوداني وكانت بداية النهاية لذلك المد الكاسح الذي فجّره واحد من أبرز الدعاة الدينيين والسياسيين في تاريخ مصروالسودان وهو محمد أحمد الدنقلي، الذي عرف بعد ذلك بـ«المهدي»، والذي قاد ثورة قدر لها أن تحقق نجاحـا ملموسا ضد الوجود المصري في السودان لكن العمر لم يمهله لتحقيق حلمه بإحكام قبضته على كل ربوع السودان.
وتولـى زمام الأمور من بعده خليفته عبدالله التعايشى وهو من أسوأ الحكام الطغاة الذين شهدتهم السودان على مدى تاريخها وأكثرهم تخريفا وكان من أحلامه فتح مكة، فلما لم يستطع قام ببناء قبة فوق قبر المهدي بأم درمان، وألزم السودانيين بالحج إليها بدلا من الحـج إلى بيت الله الحرام لكنه ارتكب خطأ عمره عندما فكر في غزو مصر حين سيّر إليها حملة بقيادة عبدالرحمن النجومي لكى يصبح خليفة على مصر والسودان ثم على كل المسلمين وكانت المواجهة بين جيش النجومي والجيش المصري في 3 أغسطس 1889.
وتقول سيرة النجومي الشهير بالأمير ود النجومي، أنه في قرية مويس ريف شندى ولايةنهرالنيل في 1854 لعائلة متدينة تنتمي لقبيلة النافعاب، وتوفى والده وهو رضيع في عامه الأول وانتقلت به والدته إلى حى الصبابي بالخرطوم ونشأ في كنف جدها الشيخ خوجلى أبوالجاز صاحب المقام المعروف باسمه في الخرطوم وهناك تعلم مبادئ الدين، وشب عبدالرحمن النجومي في بيئة متدينة وتعلم القرآن على يد الفكي هاشم.
وفي إحدي رحلاته لجنوب السودان سمع بدعوة الإمام المهدي فقابله خلال رحلة عودته في أغسطس 1881 وبايعه خليفة للرسول، وظل في رفقته وهاجر معه إلى جبل قدير بجنوب كردفان مع خمسمائة من الأنصار الآخرين وحاز النجومي إعجاب المهدي وثقته لما يتمتع به من ميزات قيادية، وعينه المهدي أميراً للأمراء وقائداً عاماً على قوات المهدية خلال حصار الخرطوم والتي سقطت على يديه ثم أرسله عبدالله التعايشي، خليفة المهدي، إلى بربر ليتولي قيادة القوة المطاردة للحملة الإنجليزية هناك.
وكان الخليفة عبدالله التعايشي حين تولي مقاليد السلطة في الدولة المهدية بالسودان بعد وفاة المهدي قد عمل على تحقيق تطلعات المهدي، فأرسل في طلب ود النجومي الذي كان يعسكر في المتمة منذ فبراير 1885 بعد مطارته لحملة الإنقاذ البريطانية التي كانت مكلفة بضمان انسحاب آمن للقوات المصرية التركية، وأوكل إليه مهمة فتح مصر واستمرت الاستعدادات لتحريك جيوش المهدية نحو الحدود مع مصر بالرغم من اشتداد المجاعة التي ضربت بالسودان عام 1889 م والمعروفة محليًا بمجاعة سنة ستة (هجرية) مما جعل الخليفة عبدالله يستعجل تشكيل الجيوش وقرر أن تتقدم أقسامها نحو الحدود بسرية واحدة إثر أخرى وطائفة بعد طائفة.
وتم اختيار عبدالرحمن النجومي قائدا للسرية الأولي (سرية المقدمة) وواصل النجومي تقدمه حتى وصل إلى منطقة معتوقة حيث عسكر فيها واهتمت الحكومة المصرية بأمر قواتها المرابطة على الحدود الجنوبية وسارعت بإرسال تعزيزات تم توزيعها على الحاميات الحدودية وانتظر الجيش المصري الحملة التي أعياها المسيرعبر الصحراء وأنهكها العطش.
وحين بدا للجميع أن المواجهة لن تكون متكافئة وأن بوادر الانتصار للجيش المصري واضحة من مقدمات المعركة نصح قادة النجومي الانسحاب لكنه لم يستجب وظل يقودجيشه نحو التهلكة وأصر على التقدم شمالاً.
وعندما علم الجنرال جرانفيل بالحالة المزرية لقوات النجومي كتب إليه يأمره بالاستسلام قائلاً: «إن الخليفة أرسلكم للهلاك، فإن تقدمت تجد جيش الإنجليز متعطشاً لدمائكم وإن عدت فقوات حلفا جاهزة لإبادتكم وإن بقيت مكانك متّ من العطش، فلا أمامك إلا الاستسلام»، لكن النجومي استقبل هذه الرسالة بفتور شديد ورد على قائد الجيش المصري قائلا: «ندعوك للإسلام ولاتعتمد على قوة جيشك وعتادك فإن الله سينصر عباده المؤمنين».
وتحرك النجومي بعدوصول التعزيزات وتنظيم قواته قاصدًا توشكى ووصل إلى تلال توشكى وعسكر عند سفحها الغربي في 1 أغسطس 1889وأصبحت قواته محاصرة ثم اندلعت المعركة الحاسمة معركة توشكي في 3 أغسطس 1889 حيث قامت القوات المصرية بشن هجوم مركزعلى قوات النجومي وكان الانتصار الكبير للجيش المصري والنجومي قتيلا.
ولدي الباحث عبدالرحمن عوض المتخصص في تاريخ السودان والحضارة النوبية وعضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية المزيد من التفاصيل المثيرة حول هذه الموقعة حيث قال إن «عبدالرحمن ود النجومي خرج في مايو 1889في 13ألف محارب من المهدية (الدراويش) لغزو مصر فالتقي بالقوات المصرية بقيادة السير فرنسيس جرنفل عند قرية توشكي غرب النيل ودارت معركة حامية الوطيس بين الآلة العسكرية الإنجليزية ورماح وسيوف المهدية الدراويش وأبلي الدراويش بلاء حسنا، وانتصر الجيش المصري على قوات الأمير ود النجومي انتصارا كبيرا ولم ينج من فلول المهدية إلا 3 آلاف محارب وقتل منهم نحو 10 آلاف كما قتل الأمير عبدالرحمن ود النجومي ودفن في توشكي، ثم نقل رفاته لاحقا بعد بعد تهجير أهالي النوبة في 1963-1964».
وتابع: «لكن من المفارقات التاريخية والقدرية في هذه القصة أنهم وجدوا في مخلاة طفلا نائما قرير العين بعد انتهاء المعركة ولم يكن هذا الطفل سوي اللواء –فيما بعد – عبدالله باشا النجومي الذي ولد في 1886 وتوفي في 1966 وكان الياور الخاص بالملك فاروق ثم الرئيس محمد نجيب بقي أن نقول أن من النتائج التي ترتبت على هذه المعركة حطت أسطورة جيش المهدية بعد انتصاراته المذهلة على الإنجليز في السودان وبعدها بعشر سنوات انتهت دولة المهدية»...!!
حرك النجومي بعد وصول التعزيزات وتنظيم قواته في 28 يوليو / تموز 1889 م قاصداً توشكي وترك ورائه الكثير من المرضى والجرحى الذين تعذر عليهم مواصلة السير، ووصل إلي تلال توشكي وعسكر عند سفحها الغربي في أول أغسطس / آب 1889 م، حتى يكون بعيداً عن مرمى نيران العدو الذي كان يطاردهم إنطلاقاً من ضفاف النيل، في حين إنخفض تعداد جيش النجومي إلي 3000 مقاتل فقط، أما من الجانب الأخر فقد إنضمت قوات ود هاوس التي كانت تتابع النجومي إلي القوات المصرية بقيادة السردار جرانفيل وأصبحت قوة واحدة تحت قيادة جرانفيل وكانت على النحو التالي:
500 من الفرسان الراكبة بقيادة اللواء كتشنر باشا.
240 من الطوبجية ومعهم 8 مدافع بقيادة القائمقام ويندل بك.
لواء مشاة من قوة ود هاوس قوامها 1500 جندي.
فريق طبي يتكون من 70 فرداً.
وفي الثالث من أغسطس / آب واصل النجومي تقدمه شمالاً ، لكن لواء كتشنر تصدى له فبادر النجومي بإطلاق نيران كثيفة على قوات كتشنر مما اضطره إلي الإنسحاب خلف التلال على بعد نصف ميل من جهة مجرى نهرالنيل ومن هناك بدأ في ضرب قوات النجومي. حاول النجومي تركيز هجومه على قيادة القوات المصرية الراكبة والتي كانت بقيادة جرانفيل وإجباره على التراجع والإستعانة بمدفعية الطوبجية لمواجهة هجوم النجومي. وبازدياد كثافة النيران على قواته اضطر النجومي إلى وقف الهجوم الذي لم يحقق أي اختراق في صف العدو، وغير اتجاه تقدم قواته نحو الشمال الغربي، لكن لواء كتشنر كان قد احتل مواقع ذلك الاتجاه فتصدى لقوات النجومي وتمكن من ايقاف تقدمها نحو ذلك الاتجاه وبذلك اصبحت قوات النجومي شبه محاصرة بين فكي كماشة.
مصرع النجومي:
عندما أدرك النجومي خسارته اختار لمحاولته الأخيرة منطقة منبسطة الأرض صف فيها قواته ونشر حملة البنادق في الامام وخلفهم حاملي السيوف والحراب وأمر بنقل النساء والأطفال في مكان منخفض بعيداً عن النيران واستعد لمواجهة العدو.
قامت القوات المصرية بشن هجوم مركز على قوات النجومي فتصدت لها قوات النجومي وقاتلت قتالاً شرسا لكنها لم تستطع الصمود وتكبدت خسائر فادحة مما اضطرت إلى التقهقر والتفرغ بعد فقدان عدد كبير من اقادتها، وبذل النجومي جهودا لإعادة تجميع قواته وتنظيمها لمواصلة القتال، فلاحظ ذلك جرانفيل ووجه نحوه قوة راجلة للقضاء عليه وسقط الأمير النجومي على الارض ليسلمّ الروح فحمله ملازميه على ظهر جمل وحاولوا الإفلات به من قوات العدو، الا إنها لحقت بهم واستولت على الجثمان وتفرقت بقية قوات النجومي بعد الهزيمة التي لحقت بها وانسحبت جنوبا لتطاردها القوات القوات البريطانية التي قضت علي جزء كبير منها وقد استشهد في المعركة غير المتكافئة حوالي 1500 مقاتل من قوات النجومي وبهزيمة توشكي بدء العد التنازلي لدولة المهدية في السودان.
أسباب الهزيمة في توشكي:
تتلخص اسباب الهزيمة في الأتي:
عدم تجانس عناصر حملة عبدالرحمن النجومي مما أدي إلى ظهور خلافات القادة.
عدم توفر المؤن والإمدادات مما أثر على فعالية الأفراد وأدي إلي خفض روحهم المعنوية.
قلة وسائل النقل في بداية الحملة وإنعدامها تماماً عندما احتدم القتال.
زيادة العبء الإداري بإصطحاب النساء والأطفال.
إلإفتقار للخدمات الطبية.
تعنت ود النجومي وإعتداده برأيه وعدم أخذه بمشورة الأمراء.
تفوق العدو في القوة والتدريب.
عدم توفر المعلومات عن قوات العدو.
مركزية إتخاذ القرار من خلال الرجوع إلى أم درمان قبل إصدار الأوامر للجنود.
تفشي المجاعة المعروفة بمجاعة (سنة ستة) في عام 1306 هـ ( 1889م والتي أثرت تأثيراً كبيراً على إقتصاد البلاد...!!