سعيد السني
لسنوات طوال ظل علماء التربية والباحثون في شؤون التعليم، ولا يزالون، ينظرون إلى «ثنائية التعليم» على أنها أم المشكلات التعليمية.. هذه «الثنائية» تتجسد في نوعين من التعليم: الديني والمدني.. المدني (18 مليون تلميذ)، في مدارس التعليم العام، بدءاً برياض الأطفال وانتهاءاً بشهادة الثانوية العامة، وينقسم إلى مدارس حكومية، وخاصة (عادية ولغات)، وغيرها «دولية» أمريكية وبريطانية وفرنسية والمانية، ومناهج هذه الدولية مستوردة بالكامل، وغير خاضعة ل «وزارة التعليم» الفاشلة أصلاً في ضبط مدارسنا الحكومية العادية.. أما الديني.. يديره الأزهر الشريف، في المعاهد الأزهرية (مليونا تلميذ)، وبينها معاهد خاصة (عادية ولغات)، وهي على مراحل متوازية مع المدني، من الابتدائي وحتى انتقال الطالب إلى جامعة الأزهر.. فيما تتنوع المقررات الدراسية باختلاف هذه المدارس وتنوعها سواء مدنية أو دينية.. باختصار بات لدينا «تعليم متعدد الجنسيات»، وبالتالي تختلف القيم والاتجاهات والسلوكيات التي يكتسبها التلاميذ بحسب نوع المدرسة أو المعهد الأزهري.. بينما الدولة غائبة، كون هذه الثنائية تضرب التماسك المجتمعي في مقتل،
وتؤسس للفُرقة وتغذي الانقسام والصراع بين أبناء الوطن الواحد.. هي «مشكلة» ولدت بدايات القرن التاسع عشر، مع نشأة نظام التعليم المدني على يد محمد على، الذي ترك التعليم الديني بالكتاتيب والأزهر الشريف، على حاله، مدركاً بعدم صلاحيته لبناء دولتة، ومنذ ذلك الوقت سارت نُظم الحكم المتوالية وحتى يومنا هذا، على منوال محمد على.. بل وشهدت العقود الأربعة الأخيرة تمدداً وتفاقماً لهذه الثنائية، رغم دورها العظيم فيما وصلنا إليه حاليا من تطرف وإرهاب، إلى حد اجتياح أعمال العنف جامعاتنا بما فيها جامعة الأزهر طوال العام الدراسي 2013/2014، عقب عزل الرئيس محمد مرسي، وهذه الأعمال العنفية جرت بأيادي طلابنا القادمين لتوهم من المدارس الحكومية والمعاهد الأزهرية، ناهيك عما يقع من مشاحنات طائفية قد تنقلب -لاقدر الله-، إلى فتنة طائفية.. تأكيداً، فإن ثنائيات التعليم ليست وحدها المسئولة عن هذه الحالة، إذ يتشارك معها مناهج رديئة بالتعليم العام والديني على السواء، وبعض منابر المساجد والإعلام، التي يتخذها شيوخ الفتنة والجُهال والتكفيريين منصات لبث الكراهية والتكفير والتحقير للآخر، سواء كان مسيحي أو مسلم غير تابع لجماعة الشيخ الذي يعتلي «المنصة».
هناك إجماع بين خبراء التربية وعلمائها بكافة مدارسهم الفلسفية والفكرية على أهمية تجنب هذه الإزدواجية والقضاء عليها، بتوفير «تعليم موحد» للأطفال مجانياً وإلزامياً، على الأقل في سنوات التعليم الأساسي.. فهذه «السن» للأطفال هي أخطر سنوات حياتهم، إذ وحسبما تفيد الدراسات النفسية والتربوية، فإنها «السن» الذي تتنامي فيه الوظائف الجسمية والفكرية واللغوية للطفل، وتتشكل فيها شخصيته مكتسبة القيم والاتجاهات وأسس التكيف الاجتماعي.. لذا تنظر الدول والمجتمعات الساعية إلى التماسك والتوافق بين موطنيها، إلى سنوات التعليم قبل الجامعي، خصوصاً الروضة (إن وجدت) والإبتدائي والإعدادي على انها الركيزة الأساسية لهذا التماسك والمواطنة.. وقد فطن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 إلى هذه الحقائق وأشارت المادة 26 منه، إلى وجوب أن تهدف التربية في المراحل الأولى والأساسية من التعليم إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملا، وتعزيز احترام الإنسان والحريات وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية.
إذن ليس هناك دولة تسعى للتحضر والتقدم وأن تكون «أد الدنيا»، بينما هي تترك أمور تربية أبنائها موكولة إلى مدارس متعددة الجنسيات، ومتناقضة الاتجاهات والقيم والنزعات، إذ النتيجة الطبيعية، هي أن مثل هذه الدولة لا يمكن أن تجني سوى الانقسام والفرقة والفتن.. ولعل إشارة الرئيس عبدالفتاح السيسي في لقائه يوم الخميس الماضي، مع الوفد الكنسي برئاسة البابا تواضروس الثاني، إلى أن «هناك خطط لتطوير المناهج التعليمية لترسيخ قيم المواطنة والمساواة واحترام الآخر»، تؤكد هذه المعاني وتحمل إدانة للنظام التعليمي، وأنه أحد أسباب الأزمات والحوادث الطائفية، وهو ما نقصده بطرح مشكلة الثنائية التي تحتاج إلى حل.
نسأل الله السلامة لمصر.