ميشيل حنا الحاج
المرشح الجمهوري لرئاسة الجمهورية الأميركية دونالد ترامب، أخطأ كثيرا في توجيه الاتهام للرئيس أوباما بكونه يقف وراء ظهور ونشوء وتأسيس الدولة الاسلامية. ولكنه أصاب عندما اتهمه بأن مداهنتها وعدم ملاحقتها جديا في الوقت الملائم، كان السبب الكامن وراء تناميها وازدياد قوتها، الى درجة بات يصعب معها لاحقا التغلب عليها.
الخطأ الجوهري الذي ارتكبه ترامب في اتهامه ذاك لأوباما
--------------------------------------------------------
اتهم المرشح ترامب الرئيس أوباما ومرشحة الحزب الدمقراطي للرئاسة هيلاري كلينتون والتي يؤازرها الرئيس الأميركي، بأنهما يقفان وراء ظهور وتأسيس الدولة الاسلامية. وهذا غير صحيح اطلاقا، لأن الدولة الاسلامية قد تأسست وظهرت للعلن في عام 2006 باسم دولة العراق، والتي سرعان ما استبدلت اسمها الى دولة العراق الاسلامية، معلنة انتماءها وتأييدها لتنظيم القاعدة.
وقد فعلت الدولة الاسلاية ذلك، معلنة نشوء وتأسيس دولة العراق الاسلامية، تحت بصر وسمع القوات الأميركية المحتلة للعراق والمسيطرة على مقاليد الأمور فيها. وهكذا ظهرت دولة العراق الاسلامية في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، وليس في عهد الرئيس أوباما الذي جاء الى السلطة ودولة العراق الاسلامية المنتمية الى القاعدة، قائمة ناشطة ومستقرة، وتواجدها معتمد ومتفق عليه من قبل مخططي الاستراتيجية الأميركية، وبالتالي لم يكن بوسع الرئيس أوباما عندئذ، في دولة مؤسسات كالولايات المتحدة، أن يبدل أو يغير شيئا من استراتيجية اعتمدت من مؤسسات الدولة، ومن سلفه جورج دبليو بوش الذي لم يعترض على قيام تنظيم دولة العراق، أو على تغيير اسمها الى دولة العراق الاسلامية.
الأخطاء التي ارتكبها أوباما في تعامله مع الدولة الاسلامية
--------------------------------------------------------
ولكن الرئيس أوباما ارتكب فعلا سلسلة من الأخطاء الجوهرية، بحسن نية أو نتيجة تخطيط ودراسة خاطئة، في تعامله مع الدولة الاسلامية التي نشأت في عهد سلفه جورج بوش الابن باسم دولة العراق، لكنها سرعان ما استبدلت اسمها (الاستبدال الأول) ليصبح دولة العراق الاسلامية (الاستبدال الثاني للاسم جرى في عام 2013)، اذ بات الاسم عندئذ دولة العراق والشام الاسلامية واختصاره داعش، وذلك اثر نشوب الحرب الأهلية في سوريا منذ آذار 2011 وقيام دولة العراق الاسلامية، بارسال عناصرها للقتال في سوريا الى جانب جبهة النصرة (السورية)، الشقيقة لدولة العراق الاسلامية نتيجة انتماء كليهما لتنظيم القاعدة.
ولكن الخلاف دب فجأة بين الطرفين بعد عامين من مشاركة كليهما في القتال ضد الحكومة السورية جنبا الى جنب. وكان الخلاف حول قيادة العمليات العسكرية. فأبو محمد الجولاني، أمير جبهة النصرة، السورية المولد والأعضاء، كان يتشبث بحق القيادة لنفسه، في الوقت الذي أرادها أبو بكر البغدادي، أمير تنظيم دولة العراق الاسلامية، أيضا لنفسه. وعندما اشتد الخلاف بين الطرفين وطلب أبو محمد الجولاني من البغدادي، أن يعيد قواته الى العراق لوجود حاجة الى رجاله هناك أكثر من الحاجة اليهم في سوريا، رفض البغدادي ذلك معلنا فك ارتباطه بجبهة النصرة، واستبدال اسم تنظيمه بدولة العراق والشام الاسلامية (داعش)، تأكيدا لوجود دور له أيضا في العمليات القتالية الجارية في سوريا، الأمر الذي لم يرق لأبو محمد الجولاني الذي رفع الأمر الى القيادة العليا في تنظيم القاعدة التي ينتمي اليها الطرفان. وهنا تبني الدكتور أيمن الظواهري، أمير القاعدة، وجهة نظر أبو محمد الجولاني، فافتى بوجوب اقتصار عمليات دولة العراق الاسلامية على العراق، واختصاص جبهة النصرة بالعمليات العسكرية في سوريا، الأمر الذي لم يرق أيضا للبغدادي، فأعلن فك ارتباطه حتى بتنظيم القاعدة الأم، متشبثا بمواصلة دولة العراق الاسلامية، التي بات اسمها دولة العراق والشام الاسلامية، القتال في سوريا أيضا الى جانب قتالها في العراق.
وهذا كله تاريخ قديم ومعروف وسبق التعرض له مرارا من قبل، ولكن بات من الضروري الرجوع اليه الآن، لتذكير ترامب أين أخطأ وأين أصاب. فالمسؤولية عما حدث حتى تلك اللحظة، كانت تقع على عاتق جورج بوش الابن الذي نشأت دولة العراق الاسلامية في عهده وتحت بصره. لكن مسؤولية الرئيس أوباما تبدأ بعد ذلك التغيير الجوهري في توجهات دولة العراق الاسلامية. فمنذ تلك اللحظة، بات الرئيس أوباما مسؤولا عما تلا ذلك من أحداث أدت الى استقواء دولة العراق والشام الاسلامية بسرعة كبيرة وخارقة أثارت دهشة العديد من المراقبين، دون أن يحدد أحد من هو المسؤول عن ذلك التطور الكبير والمفاجىء في حجم دولة العراق والشام الاسلامية، التي كانت الى حين، أضعف الفرق المعارضة المسلحة في سوريا، وباتت فجأة أقواها وأشدها بأسا وقوة، بل أكبرها حجما وقدرة على مقاتلة الجميع: لا مقاتلة القوات السورية الرسمية فحسب، بل مقاتلة الجيش السوري الحر، وفرق أخرى من المعارضة المسلحة، وأحيانا مقاتلة جبهة النصرة ذاتها أيضا. فهنا يبرز التساؤل حول دور الرئيس أوباما في ذاك التطور الغريب والسريع والمفاجىء، والذي جرى في عهده وأثناء رئاسته، وتحت أعين ومراقبة أجهزة مخابراته.
سلسلة أخطاء أوباما الجوهرية اللاحقة بصدد الدولة الاسلامية
-----------------------------------------------------------
لم يتوقف الأمر لدى ظاهرة النمو السريع لقدرات دولة العراق والشام الاسلامية، لدرجة باتت تتفوق بعدها قوة وعددا على كل التنظيمات المعارضة الأخرى، اذ أن ما كان يثير الدهشة والتساؤل أيضا في هذا الصدد، مصدر التمويل والتسليح الذي هل عليها فجأة رغم انقطاع مواردها من تنظيم القاعدة الأم اثر فك ارتباطها بها. فهل كان مصدره دول الخليج وخصوصا السعودية وقطر، مع سكوت أميركي عنه نظرا لضرورته تحقيقا لمصلحة استراتيجية معينة، أم كان مصدره الولايات المتحدة ذاتها، برئاسة أوباما الآن، التي وجدت في التنظيم الجديد وسيلة لتحجيم تنظيم القاعدة الأم، الذي عجز الرئيس جورج بوش الابن عن تحجيمه أو استئصاله، رغم حرب دامت ثماني سنوات في عهده ضد تنظيم القاعدة وحلفائها في طالبان؟ ذلك أن الرئيس أوباما كما يرجح البعض، قد وجد في داعش، التي انهالت عليها عمليات المبايعة من تنظيمات باتت تفك ارتباطها بالقاعدة وتعلن انتماءها للدولة الاسلامية... وجد في ذلك وسيلة مثلى لتفكيك تنظيم القاعدة والحد من جبروتها وقوتها المدمرة؟
فهذا السكوت من الرئيس أوباما عن مصدر التمويل لداعش، مهما كانت أهدافه ومبرراته، كان خطأ كبيرا كشفه سرعة توجه الدولة الاسلامية التي أصابها نوع من الغطرسة والزهو بقوتها المتميزة، نحو ارتكاب أعمال وحشية كان من بينها قطع الرؤوس (بعضها رؤوس أميركية)، وقتل الأسرى، اضافة الى أعمال وحشية أخرى عديدة لم يعد بوسع أحد بعدها السكوت عن الدولة الاسلامية وأعمالها البشعة، فكان لا بد اذن من اعلان الحرب عليها. وقام الرئيس اوباما فعلا باعلان الحرب على الدولة الاسلامية في 27 أيار 2014، وذلك خلال خطاب القاه في الكلية الحربية في نيويورك. لكن الرئيس أوباما اعلن الحرب على داعش، وتوقف عند اعلانها فحسب، اذ لم يقدم فعلا على عمل عسكري ما يكشف عن دخول الحرب مرحلة التنفيذ. وكان ذلك خطأ آخر ارتكبه الرئيس أوباما.
لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك فحسب، أي عند الامتناع عن الممارسة الفعلية لخطوات عسكرية في تلك الحرب، اذ سرعان ما ارتكبت ادارة أوباما خطأ آخر أكثر جدية وجوهرية. وذلك عندما أتاحت للدولة الاسلامية، في الفترة بين 9 و 12 حزيران 2014، اي بعد قرابة 15 يوما من اعلان تلك الحرب على تلك الدولة، من احتلال ثلاث محافظات رئيسية في شمال العراق، شكلت اضافة الى محافظة الأنبار، ما يقارب 40 بالمائة من كامل الأراضي العراقية. فالدولة الأميركية التي هي الآن في حالة حرب معلنة ضد داعش، قد تركتها تسيطر على هذه المساحة الجغرافية الواسعة من الأراضي دون أن تفعل شيئا لايقافها أو ردعها.
لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك أيضا، فالولايات المتحدة بأقمارها الصناعية وأدوات تجسسها، كانت لا بد قد لاحظت على مدى أيام، قيام الدولة الاسلامية بتجميع قواتها تمهيدا لهجوم كبير، بل ولا بد قد لاحظت أيضا تحرك تلك القوات في اتجاه المحافظات العراقية الثلاث، ومع ذلك اتخذت موقف عدم التدخل لمقاومتها وقصفها جوا والحيلولة دون نجاح مهمتها. بل وذهبت الى أبعد من ذلك، بعدم تحذير الحكومة العراقية حول ما يجري على الأرض العراقية، أو على وشك أن يجري عليها بين يوم وآخر. وكانت النتيجة، ليست مجرد سيطرة الدولة الاسلامية على مساحات واسعة من الأراضي العراقية، بل الاستيلاء أيضا على كم كبير من المدفعية والدبابات والصواريخ التي كانت الفرق العسكرية العراقية المتواجدة في شمال العراق تملكها (وقيمتها مليارات الدولارات)، اضافة الى وقوع أولئك الجنود أسرى في أيدي داعش وعددهم بالآلاف، واضطرار الكثيرين منهم، حماية لأرواحهم، للانضواء تحت لوائها، مما زاد في قوتها قوة من حيث السلاح والعتاد بل والعدد أيضا.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك الفشل المريع الذي قد تبرره الادارة الأميركية بكونها قد لاحظت بمصادر تجسسها العديدة، تجمع وتحرك قوات الدولة الاسلامية، ولكنها لم تكن واثقة بعد من نواياها الفعلية، مما جعلها تتردد في التحرك لاحباط تحركها... اذ تبعه فشل آخر، بامتناع سلاح الجو الأميركي الذي بات الآن يقود تحالفا ضد الدولة الاسلامية، عن الشروع في قصف المواقع الجديدة للدولة الاسلامية في شمال العراق، كي لا تمكنها من تركيز مواقعها وبناء دفاعاتها الاستراتيجية هناك. فلم تقم الولايات المتحدة بعمل عسكري واحد ضد الدولة الاسلامية، وبالتالي ظلت في موقف المتفرج لعدة أيام، (رغم وجود حالة حرب معلنة رسميا)، فلم تتحرك جديا الا عندما بدأت تلك الدولة الاسلامية بالتوجه لمحاصرة اقليم كردستان، بدءا بمحاصرة اربيل عاصمة الاقليم. ففي تلك اللحظة فحسب، تحرك سلاح الجو الأميركي، وبدأ أولى خطواته في تلك الحرب المعلنة ضد الدولة الاسلامية، مع شروعه بقصف القوات الداعشية واجبارها على التراجع عن المناطق الكردية التي يبدو بأنها تشكل خطا أحمر في الاستراتيجية الأميركية. وبالتالي لم يكن تحركها تنفيذا للحرب المعلنة ضد الدولة الاسلامية، بل كان على أرض الواقع، مجرد عمل عسكري استهدف حماية الأكراد لا أكثر. وعزز ذلك الاحتمال، تدخلها الكثيف لاحقا لحماية الأكراد أيضا المحاصرين في عين العرب (كوباني)، وبعدها في جبل سنجار حيث الأزيديين والأكراد.
وأكد تلكوء وعدم جدية الرئيس أوباما في مقاتلة الدولة الاسلامية، اعلانه الرسمي أمام الكونجرس، بعدم توجهه لاستخدام قوات برية في تلك الحرب، والاكتفاء بعمليات جوية تستهدف تحجيم الدولة الاسلامية (كما قال صراحة)، معززا ذلك ببداية حرب فعلية ظاهرية ضدها، لكنها حرب بدت للعيان كحرب رحيمة، حرب ضد صديق لا عدو، استنادا للكم الضعيف من الاغارات الجوية الأميركية على مواقع تلك الدولة، والتي نادرا ما تجاوز عددها العشر اغارات يوميا، الا في حالات تعرض الأكراد للخطر. فعندئذ فقط، كانت تشتد الاغارات وتستعر، تذكيرا بالخطوط الحمراء المأذون للدولة الاسلامية (كما قد يبدو للمراقب) بالتحرك خلالها وفي مدارها، مع عدم تجاوزها.
وبالتالي لم تدخل الحرب الأميركية ضد الدولة الاسلامية مرحلة جدية، الا بعد الشهر التاسع من عام 2015، عندما تدخلت القوات الروسية بشكل مباشر، في العمليات العسكرية الجارية على الأراض السورية. ففي هذه الحالة فقط، ونتيجة ما بات ظاهرا من بروز تنافس عسكري بين القوتين الروسية والأميركية، اضطرت القوات الأميركية عندئذ، لأن تنشط في عملية تنافسية مع القوات الروسية، مستهدفة مكافحة الارهاب سواء تمثل بالدولة الاسلامية، أو بجبهة النصرة التي توسعت في مرحلة ما بقدرة قادر، وسيطرت على محافظة ادلب السورية. فهذه الحرب الرحيمة التي ظل التحالف الأميركي يقودها على مدى ستة عشر شهرا سابقة على التدخل الروسي المنافس، هي التي يتوجب على المرشح ترامب أن يتعرض لها، اضافة الى تساؤلات من جانبه عن السبب الذي حال دون التدخل الأميركي (رغم كل المعلومات التي وفرتها وسائل تجسسها)، للحيلولة دون نجاح الدولة الاسلامية في السيطرة على محافظات الشمال العراقي الثلاث في عام 2014، رغم محاولتها لاحقا لتصحيح الموقف بالمساهمة المحدودة في تحرير محافظات صلاح الدين وأجزاء من محافظة الأنبار كما فعلت في معركتي الرمادي والفلوجة لاحقا.
تخبط ترامب في اتهاماته
------------------------
فما يحبط مهمة ترامب في اتهاماته، هو جهله بحقيقة ما جرى فعلا على أرض الواقع وخصوصا على الأراضي العراقية. لأن من سمح بتأسيس دولة العراق الاسلامية، كان جورج بوش الابن، تعاونه غونداليزا رايس وزيرة خارجيته، ولم يكن للرئيس أوباما وهيلاري كلينتون أي دور في ذلك.
ولست في معرض الدفاع عن المرشحة هيلاري كلينتون، غير أن الحقيقة التاريخية تقتضي أن نذكر بأن الأخطاء التي ارتكبها الرئيس أوباما وادارته في التعامل مع تحول دولة العراق الاسلامية الى داعش ومن ثم للدولة الاسلامية، وممارستها الصمت ازاء النمو المفاجىء والغريب لذاك التنظيم، ومن ثم توسعه في الشمال العراقي... قد حدث كله في مرحلة تواجد فيها جون كيري في موقع وزارة الخارجية، ولم يكن لهيلاري كلنتون دور فيها، اذ كانت قد تخلت عن موقعها كوزيرة للخارجية، منذ نهايات عام 2011، وهي المرحلة التي بدأت تظهر فيها لاحقا علامات النعمة والقوة والتسليح الكثيف على دولة العراق الاسلامية، وخصوصا اثر تحولها لدولة العراق والشام الاسلامية (داعش)، الذي لم يتبلور الا في عام 2013 عندما كانت المرشحة هيلاري كلينتون خارج موقع المسؤولية. وهذا كله يقتضي من المرشح رونالد ترامب، أن يراجع أقواله واتهاماته، ويدقق في معلوماته أكثر وأكثر، خوفا من أن تنعكس اتهاماته الطائشة، والتي تنقصها المعلومات الدقيقة، وبالا على مهمته في مقارعة منافسته هيلاري كلينتون على موقع الرئاسة.
وبعد ذلك، ليتقارع المرشحان كما يشاءان فيما بينهما، ويتبادلا الاتهامات كما شاءا، شريطة أن يظل ذلك في حدود الوقائع والحقائق التاريخية كما جرت فعلا، وليس كما يتمنى ترامب أو هيلاري أن تكون قد جرت متلائمة مع مصالح معركتهما الانتخابية.