مقاومة الفساد آلية من آليات إقناع المواطن بتحمل أعباء الأزمة الاقتصادية التى تضرب البلاد والعباد حالياً. إحساس المواطن بوطأة الغلاء سوف يخف إذا أحس بأن السلطة لا تتوانى عن محاسبة الفاسدين، ووجد لديها حرصاً على صيانة المال العام، فى وقت تحتاج فيه مصر إلى كل جنيه. لقد أدانت لجنة تقصى الحقائق فى توريد القمح المسئولين عن هذه العملية. وأثبتت أنهم أهدروا على الخزينة العامة مليارات الجنيهات، وأشارت إلى قيام بعض المتورطين فى القضية باستيراد القمح وتوريده إلى الدولة، على أنه مزروع فى مصر، ما يعنى أننا أمام عملية نصب وسرقة مكتملة الأركان.
لو أنك فحصت الأطراف المختلفة المتورطة فى هذه القضية، كما أعلنت عنها لجنة تقصى الحقائق، فستجد أننا أمام قضية نموذجية لشرح شبكات الفساد التى تعشش فى بعض مؤسساتنا، شبكات يتحالف فيها المال مع السياسة مع الأعمال من أجل إدارة صفقات مشبوهة، بهدف تحقيق مكاسب فى دولة مستنزفة اقتصادياً. ولعلك تعلم أن النائب العام أمر منذ عدة أيام بضبط وإحضار عدد من المتهمين الضالعين فى اصطناع كشوف بأسماء مزارعين وحائزين لأراض زراعية وإثبات قيامهم بزراعة تلك الأراضى بمحصول القمح وتوريدهم تلك المحاصيل على خلاف الحقيقة للصوامع والشون. وتضمنت تلك الكشوف المصطنعة إثبات توريد 221٫8 ألف طن بقيمة 621 مليون جنيه. هذا غيض من فيض.. والبقية تأتى.
إذن التحرك القانونى بدأ، ومن المفيد أن يعقبه تحرك سياسى بإقالة وزير التموين. لست أتهم الرجل بالطبع، فتلك شغلة المحققين، لكننى كما ذكرت من قبل أقول إن موقعه كوزير يلقى عليه مسئولية سياسية تجعله غير أهل للاستمرار فى هذا المنصب، بتهمة الإهمال فى أقل تقدير. وظنى أن هذا الأمر لو تم العبور عليه، كأن شيئاً لم يكن، ولم يتم إقالة الوزير فإنه سيحمل رسالة شديدة السلبية إلى المواطن، فى وقت يعانى فيه الكثيرون من حالة من حالات الارتباك العصبى نتيجة الزيادات المتلاحقة فى الأسعار، إلى الحد الذى أصبحت معه الأسعار تختلف من ساعة إلى ساعة، بسبب تقلب أحوال الدولار.
إقالة وزير التموين أصبحت ضرورة، لسببين، أولهما أن الرئيس أعلن فى غير مناسبة أنه لن يتهاون فى محاسبة أى مخطئ، وقد أثبتت لجنة تقصى حقائق القمح أن الوزير لم يقم بدوره فى حماية المال العام، بل أخشى أن أقول إن دفاعه المستميت عن سلامة عملية التوريد وتهوينه للموضوع يضعه فى مواضع ليست لطيفة. أنا أفهم أن الدفاع عن النفس أمر إنسانى، لكننى لا أستطيع أن أستوعب أن يهوّن المسئول من أخطاء وقعت فى دائرة اختصاصه لمجرد الاستمرار فى موقعه. وزير التموين أخطأ ولا بد أن يحاسب. السبب الثانى أن الذاكرة المصرية لم تنسَ بعد ما تم مع المستشار هشام جنينة، الذى حُكم عليه مؤخراً بالسجن لمدة عام بسبب ترويج أرقام غير دقيقة عن الفساد. قياساً على هذه الواقعة، لا أجد معنى لاستمرار وزير التموين فى موقعه، إلا أن يقدم أعضاء لجنة تقصى حقائق القمح للنيابة بتهمة نشر معلومات غير حقيقية عن الفساد..!
نقلا عن الوطن