الحديث عن الطائفية التى تغلغلت فى نسيج الوطن يطول، ورسم ملامح الواقع يمكن أن يستغرقنا كثيراً. الأهم هو الانتقال إلى العلاج، لا بد من أن يوصف العلاج للتعامل مع الأمراض التى تنهش فى الجسد، ولابد أيضاً أن يكون العلاج شاملاً وتدريجياً، يأخذ وقته كاملاً حتى يتعافى الجسد المصرى ويتخلص مما يعمل داخله من داء. وفى تقديرى أن هناك مشكلات تراكمت لفترة زمنية طويلة جداً وتكثفت منذ تسلم السادات السلطة عام ١٩٧٠، وهنا نتحدث عن قضية بناء وإصلاح الكنائس، تلك القضية التى تعود إلى مئات السنين وعقّدتها الشروط العشرة المسماة شروط «العزبى باشا» الصادرة من وكيل وزارة الداخلية المصرية عام ١٩٣٤ والتى قيل إنها مستمدة من «الخط الهمايونى» المنسوب للسلطان العثمانى فى سبعينات القرن التاسع عشر والتى تعطى قرار إصلاح وترميم الكنائس لرئيس الجمهورية، وتجرّم وتحاسب أى مبادرة ذاتية من إدارة الكنيسة للترميم والإصلاح، ناهيك عن التوسيع والتطوير. وقد تغلغلت هذه الشروط فى ضمير البيروقراطية المصرية بحيث بات لدى هذه البيروقراطية أدوات وأساليب مراوغة فى مواجهة عمليات الإصلاح والترميم، فإذا ما احتاجت عملية الترميم لتقرير من جهة حكومية فعادة ما يأتى التقرير سلبياً،
والأكثر من ذلك هو انتقال مهمة «حصار الكنائس» من البيروقراطية إلى المواطنين، بحيث بات المواطن المصرى العادى فى القرى والريف وصعيد مصر يراقب حركة الكنائس، وما إن يعلم أن هناك حركة لإصلاح أو ترميم أو بناء حتى يثور ويغضب ويقوم بوقف هذه العملية من تلقاء نفسه. طبعاً لعبت الجماعات المتشددة دوراً كبيراً فى هذا المجال، فعادة ما تنشر الإشاعات وتدعو المواطنين إلى التحرك نصرة للدين!! وهو ما شهدناه منذ مجىء السادات إلى السلطة فيما يُعرف بحادث «الخانكة» عام ١٩٧٢ وهو أول حدث طائفى فى مصر بعد ثورة ١٩٥٢، حيث تفجّر النزاع بين الكنيسة والداخلية حول مبنى خدمات كان أقباط المنطقة يستخدمونه للصلاة، وحاولوا مراراً تحويله إلى كنيسة وهو ما رفضته الداخلية وتعامل معه السادات باعتباره محاولة لفرض بناء الكنيسة بالأمر الواقع، وكان هذا النزاع الأول فى جسد مصر الوطنى مثار خوف شديد بعد رحيل عبدالناصر وأثناء استعداد مصر لحرب تحرير سيناء. وكان واضحاً أن السادات استخدم هذا الحدث الطائفى من أجل تديين المجال العام فى مصر حتى يحصل على دعم رجل الشارع العادى من ناحية ويقوّى حضور القوى المتشددة فى الشارع المصرى، تلك القوى التى اعتمد عليها السادات فى مواجهة التيارين الناصرى واليسارى فى الشارع المصرى وتحديداً فى الجامعات. ومن بعده توالت الفتن والاعتداءات الطائفية التى دارت حول واقعة حقيقية أو متخيلة لبناء كنيسة دون الحصول على التراخيص المطلوبة والتى تقترب من الاستحالة، أو حول وقائع حقيقية أو متخيلة لترميم وإصلاح وتوسيع كنائس قائمة.
يبدأ العلاج أولاً من الإقرار بوجود مشكلة والإيمان فى الوقت نفسه بأن بناء الفرد أهم من الحجر، القضية ليست تنافساً فى بناء دور العبادة بقدر ما هى تلبية احتياجات بشرية للصلاة، ومن ثم لا بد من قانون محدد وواضح المعالم ينظم بناء الكنائس، فلا توجد مشكلة فيما يخص المساجد، تنحصر المشكلة فى بناء أو إصلاح وترميم الكنائس، نحن على أعتاب تقديم مشروع قانون بناء وإصلاح الكنائس لمجلس النواب، مشروع قدمته الحكومة وفيه ما فيه من ألغام تكشف عن نوايا مسبقة بعدم الرغبة فى إنهاء هذه المأساة التى باتت تلطخ وجه الوطن، الأمر الذى يؤشر لعدم وجود توجه حقيقى لتجاوز الطائفية فى البلاد.
نقلا عن الوطن