الأقباط متحدون - العذراء مريم فى الثقافة اليونانية
أخر تحديث ٠٨:٠٦ | الأحد ٢١ اغسطس ٢٠١٦ | مسري ١٧٣٢ش ١٥ | العدد ٤٠٢٧ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

العذراء مريم فى الثقافة اليونانية

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
الأب أثناسيوس حنين – اليونان
شكلت التقوى الشعبية والخشوع أمام كل ما له صلة بعالم الألهة المركز الذى جمع اليونانيين جميعا ’ بغض النظر عن درجة الثقافة أوالقدرة على التفلسف. لقد شكلت التقوى الشعبية’ نقول ’ خلال تاريخ اليونان وعبر العصور ’ وحسب الاستاذ اللاهوتى والمؤرخ ارستيديس بانوتيس (تاريخ الكنيسة اليونانية ’ أثينا 2008) ’ نقول شكلت صمام الأمان الثقافى الشعبى فى مواجهة التقلبات الدينية والحوارات الفلسفية وأسئلة الناس المصيرية ’ بل ولا نبالغ اذى قلنا حتى فى الأزمات السياسية الكبرى ’ وأثر هذا كله على الأزمات السياسية على مر العصور. لم يحدث فى تاريخ أى شعب أخر فى العالم القديم ’ أن صارت قضايا الألهة وثقافة الصالح والطالح والسعى لمعرفة الحقيقة وعلاقة النفس بالخلود والرؤية السياسية والبقاء والفناء ’هى أحاديث الناس فى الميادين العامة والحانات والملاعب ’ مثل ما حدث فى اليونان قديما ’ وما يحدث ’ بشكل لاهوتى جديد’ حديثا . لقد صار الشعراء والكتاب والرسامين والمثالين والنحاتين هم بمثابة أنبياء اليونانيين الوثنييين ورسل ثقافتهم ! ولم يكن الفكر الدينى عند اليونانيين تسليما أعمى بقدرطاغ ’ بل على النقيض ’ لم يخلو التاريخ الدينى لليونانيين من النقد الذاتى والمراجعات الفلسفية ’ بل لقد رفض الكثيرون من الفلاسفة الانحطاط الذى وصل اليه بعض المثقفين فى تصويرهم للالهة على أنه لا عمل لها الا أرضاء شهوات الناس وأشباع نزواتهم . 
 
لقد صار اليونانيون مسيحيون فى ملء تراثهم الثقافى وتاريخهم الفلسفى . لم يحدث بين اليونانيين وتراثهم اللغوى والحضارى وثقافتهم اليومية خصومة حقودة ما أو عراك وهمى أو تكفير عشوائى . تراهم وبنفس الحرارة الدينية ’ صاروا مسيحيون مستقيموا الرأى . لقد عمدوا لغتهم العنيدة وتراثهم الفلسفى الناقد واساطيرهم الميتافيزيقية ’ فى نور الكلمة –اللوغوس . صارت أعيادهم الدينية مظاهرات ثقافية وتأصيلات لاهوتية وأطلالات سياسية ولكن غير مسيسة وهبات وطنية وثورات قومية . اليونانيون يبحثون دائما عن البطولة ’ ولقد وجدوها فى عفة العذراء أم اللاهوت النقية بعد أن أصابهم الملل من انحلال أفروديت ’ سيدة الاغراء والتحرش ! . لقد حولوا الانحلال الافردويتى الى تكريم للعفة والجمال العذرواى وحب لكل النساء فى شخص العذراء . قال أحد الحكماء (اذا كانت أفروديت ألهة ’ فلا يمكن للعفة أن تصير فضيلة ’ واذا كانت العذراء أم الله فلابد للبتولية والقداسة من أن يكونا أصل كل فضيلة ). لم يكن اليونانيون يهينون المرأة فى تأليه أفروديت الساقطة ’ كما لم يكونوا يؤلهون أمرأة وأم فى حبهم للسيدة العذراءْ السامية ’ كم يظن العرب ! لأن مريم فى التراث ’ ليست مجرد مريم العذراء’ ليست صورة عن الانثى فانها ليست مجرد انثى لأنها أصبحت انساننا بالتجسد وانتقلت من حدودية ومحدودية الانوثة الى رمز البشرية الجديدة امام الله والناس (راجع مقال سيادة المطران جورج خضر : الانسان المسيحى ليس رجلا او امرأة ’ فى كتاب المرأة فى الكنيسة والمجتمع فى الشرق الاوسط ة اصدار مجلس كنائس الشرق الاوسط - لبنان 1979 ص 91 -96 .
 
لقد شكلت السيدة العذراء الثقافة اليونانية عبر تاريخها ’ بالمعنى الواسع للثقافة . لقد علمتهم مريم معنى روح ولاهوت المقاومة وذلك CULTURE أثناء الاحتلال العثمانى لليونان . من أهم روافد الثقافة اليونانية والتى تشكل ضمير الشعب وثقافته اليومية نجد فن الايقونة والذى ليس هو رسم ولا الايقونة صورة بل هى انسكاب نعمة الذوق الانسانى كله فى وجه السيدة الاولى على يد رسام صائم ومصلى وناسك وعاشق للاهوت المنكسب ألوانا فى ريشته ! ’ الايقونة رؤية ثقافية واطلالة لاهوتية ومطرح سجود انسانى ’ وكم من أيقونة صنعت أيات ومن أستطاع أن يؤمن فليؤمن ! مئات الايقونات للسيدة العذراء وكل ايقونة تصور حدثا تاريخيا ’ وتوثق لوقفة ثقافية ’ وتقرر قانونا لاهوتيا ’ الايقونة هى خير مدرسة اللاهوت التى يدخلها البسطاء ويتعلم فيها العوام (راجع : مريم فى الفن البيزنطى ’ للأب أنطون هى ’ فى مريم أم الله ’ مجلة المسرة العدد 389 ’عدد خاص بالسنة المريمية 1954 ص 646 -652 ) . اذا ما تم الاعلان عن زيارة ايقونة للسيدة العذراء من منطقة نائية أو من جبل أثوس الى أثينا ’ تقف الدنيا ولا تقعد ’ مظاهرة روحية واطلالة ثقافية وهبة حضارية وعزة نفس وطنية وأجماع وطنى ليس له نظير . يتقدم الجيش الايقونة بكرامات رئيس الدولة ومن ثم رجال الدولة والمطارنة والكهنة بالملابس الذهبية الزاهية لأن مريم هى الأناء الذهبى الذى حل فيه ملء اللاهوت ! ويصطف اليونانيون على جنبات الشوارع فى خشوع شعبى راق وتتولى السيدات القاء الورود من بالكونات وشرف ونوافذ البيوت والعمارات وهم يحملون المباخر ’ وتنهدر الدموع وتعلوا الدعوات من أجل العالم كله ونهضته ورقيه وثبات المؤمنين . أنها مظاهرة ثقافية ولا أرقى . اذا بحثت عن اسم مريم وماريا ومارى وماريانا بين صبايا وسيدات اليونان ’ يعوزك الوقت ومكاتب السجل المدنى خير شاهد ! يجب أن لا يفوتنا أن أعياد الثيؤطوكوس فى اليونان هى بمثابة نهضة لغوية كبرى ’ لأن الترانيم والطروباريات والصلوات التى يتلوها الاساقفة والكهنة ويرتلها المرتلون هى باللغة اليونانية الفصحى أى لغة أفلاطون وأرسطوا والتى عمدها المسيحيون فى معمودية اللاهوت ’ لتصير من لغة وثنية ال أله لها الى لغة لاهوتية تنطق بالألهيات ! والتى يحفظها الشعب البسيط عن ظهر قلب !

ثورة لغوية ضد كل محاولات طمس اللغة اليونانية القديمة التى ينادى بها بعض اتباع الحداثة والتسهيل على الناس ! اذا تسألنا عن السبب وراء صبر المسيحيين الاوائل على العيش فى الكهوف وشقوق الأرض هربا من الملاحقات الامنية ’ سنجد أن أهم الاسباب هو ايقونات السيدة العذراء المرسومة على حوائط الكهوف والمغاير وشقوق الأرض والتى كان يلجأ اليها المضطهدون والهاربون من الضيق يبثونها الامهم وشجونهم ويطلبون المعونة لأنهم أمنوا بأن الشكوى لغير العذراء وابنها يسوع المسيح ’ كلمة الله وروح منه ’ مذلة حقيقية ! وكم من مؤلفات لاهوتية عميقة قد تمت كتابتها اثناء الاضطهادات وتحت أيقونة العذراء الثيؤطوكوس وعلى ضوء شمعة فى أحسن الأحوال ! يشكل يوم عيد السيدة العذراء فى اليونان عيدا قوميا ومهرجانا وطنيا وحفلا ثقافيا ’ اذ تمنح الدولة اجازة رسمية للعاملين ’ الى جانب ان العيد (الذيكابنتفغستوا) يأتى فى الصيف 15 أغسطس ويسميه اليونانيون (فصح الصيف ) والصيف فى اليونان له سحره واليونانى يعشق البحر وتمتلئ الجزر التى بها مزارات تاريخية على اسم السيدة العذراء بالحجاج (والكلمة مسيحية ايضا ) ويرتبط الصيف والبحر بالعذراء والتسليات الروحية والتسامح والنسيان ’ ناهيك عن الانتعاش السياحى فى ظل أزمات الاقتصاد اليونانى ’ واليونانيون يمتلكون أجمل بلاجات العالم ’ وهنا ترتبط السياحة بمريم ومريم بالسياحة ’ روحية أكانت أم جسدية وكله يهون فى حب مريم ! .

يلتقى فى العيد قيادات البلد ’على أختلاف انتمائاتهم السياسية بالناس ’ ويتناسون خلافاتهم الساسية وأنتمائتهم الحزبية ويصلون معا و معهم ويتم التلاحم الشعبى والحكومى فى أروع صوره العذرواية ’ويتحقق حلم أفلاطون القديم بأن يحكم الفلاسفة والحكماء ويتفلسف الحكام بالروح ! ويتم ربط العيد بمناسبات قومية كبرى وأحداث وطنية جسام ويتم القاء الخطب الوطنية وسرد تاريخ الحرية ومدح ثقافة الكرامة وتجديد ذاكرة الأمة . هذا الى جانب وسائل الاعلام المرئية والمقروئة والمسموعة والتى تنتهز الفرصة وتواكب الحدث لتصنع منه لحن وحدة وطنية كبير وجلسة صلح انسانية بين جميع التيارات السياسية والانتمائات الثقافية والاجانب المقيمون باليونان على اختلاف ركائبهم بلا تصنع دينى ولا تكلف سياسى ’ أنها هدنة سياسية واجتماعية وثقافية بين جميع أطياف البلد ومن الطراز الأول وخاصة اذا علمنا أن عطلة المجلس النيابى تقع فى شهر أغسطس .
 
يتبقى السؤال الذى يطرحه الكثيرون داخل اليونان وخارجها ؟ ما هى طبيعة العلاقة بين رهبان الجبل المقدس أثوس فى ضواحى مدينة تسالونيكى (يضم 2000 راهب ) وبين السيدة العذراء ؟ هناك تقليد قديم يؤكده خبرات الأباء وأمهات الوثائق فى الجبل المقدس بأن السيدة العذراء هى شفيعة الجبل وحاميته ’ بل ومؤسسته (بيريفولى تيس باناجياس ) ويوجد بأديرة الجبل العشرون أندر وأقدم ايقونات للسيدة الثيؤطوكس . صارت العذراء حامية الجبل وأم رهبانه وسر قوته وصموده ’ سيقول العالمون بامور اليونان ’ لماذا لا يسمح الرهبان فى جبل أثوس بدخول المرأة ؟ لم أقم بدراسة القضية درسا وافيا ولا يتسع المقال والمقام للشرح والاستفاضة ’ لكنى سأجتهد كمن رحمه الله ومن خلال علاقاتى الشخصية مع أباء الجبل المقدس ’ هم أختاروا السيدة العذراء أما وأختا وشريكة لهم ويرون فيها كل أمراة ’ نعم كل أمرأة ’ ’ ليست الانثى ’ لأن مريم لم تعد بعد أن أسلمت نفسها وجسمها لله ’ لم تعد أنثى ’ كما قال المطران خضر ’ بل صارت مطرح سجود الانسانية الجديدة ومحجة كل أمرأة حقيقية ’ أذن العذراء هى سفيرة كل أمرأة فى الجبل المقدس . الأمر الثانى هو أن الراهب قد أنقطع عن العالم ولا يرى وجه أمرأة وحنى أعز الأقارب جسديا ! ليس لأن المرأة شرا ! ’

بل لأن المرأة هى سر الجمال ورمز الاستقرار ومطرح العائلة وأساس الحياة فى العالم وصانعة الحياة ’ والراهب قد قرر أن يتغرب ويرتفع ويتسامى عن هذا كله ليسكن فى اللاهوت ويستمتع بصداقة المرأة الأولى والأخيرة فى التاريخ كله ’ مريم الدائمة البتولية . الحقيقة أن قضية زيارة المرأة للجبل لم يتم أثارتها الا حديثا على يد حفنة من النسوة المدافعات عن حقوق المرأة !!!’ وهم فى الحقيقة لا يدافعن عن كرامة المرأة بل يؤيدن فلتانها وتسيبها واستبدادها ويضعون ’ مع العرب ’ كل العصمات ’ مش عصمة واحدة ’ فى أيديها الغير المقدستين واللتان لا تقبلان العذراوية ولا تقبلان أيقونة العذراء والا يخشعن أمام سر المرأة الرائع والعميق والحقيقى والدليل منظر المرأة اليوم فى وسائل الاعلام والفضائيات والشوارع والبيوت وهذه قضية أخرى يمكن ببركة السيدة العذراء أن نتتناولها مرة أخرى ’ !!!.’

هذا عن الجانب الروحى واللاهوتى والثقافى لموقف الرهبان من زيارة المرأة للجبل ’ من الناحية العملية الجبل المقدس مجموعة من الجبال والاحراش والغابات يستحيل على الرجال أنفسهم (يحدث أن يتوه بعض الزوار الرجال فى الأحراش ويتم البحث عنهم بالطائرات الهليوكوبتر كما حدث الاسبوع الماضى !)’ الا الاشداء منهم السير فيه والتجول بين أديرته وصوامعه ’ من هنا ’ أقول ’ ربما يكمن البعد العملى لمنع السيدات من الدخول الى الجبل المقدس وأن كان يسمح لهن بالتجول فى المراكب حول الجبل المقدس والتبرك بأجساد القديسين وأيقونات السيدة والتى يحملها اليهن الأباء الرهبان للتبرك فى الكنيسة الكبرى فى منطقة خارج الجبل المقدس ! . خلاصة الأمر مريم العذراء قد شكلت وما زالت تشكل قلب الثقافة اليونانية ومحور نهضتها اللاهوتية والانسانية وسر بقاء اليونانيين أصحاء روحيا ونفسيا وأجتماعيا وكل عام والجميع بالخير فى اليونان ومصر والشرق كله والأاخوة المسيحيين فى مصر بالخير ’ للروم فى مصر والشرق للذين أحتفوا بالعذراء فى 15 أغسطس وللأقباط الذين سيعيدون 22 أغسطس .

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع