(1)
«ثقافة التساؤل»؛ هى الثقافة التى تمنح المجتمعات الحيوية والتجدد. فمن يظن أنه قد تم الإجابة عن كل التساؤلات، وأن هناك إجابات جاهزة لأى سؤال، يكون واهما. لذا المجتمعات التى تبغى التقدم تجد عقلها فى حالة «فورة» ذهنية، خاصة مع إيقاع ونوعية وطبيعة التغيرات التى تطرأ على المجتمعات الإنسانية.. فى هذا السياق، نشر توماس بيكيتى فى 2013 مجلده التاريخى الضخم: «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين». وهو المجلد الذى أثار الكثير من الجدل ــ ولايزال ــ فى الأوساط الأكاديمية، والبحثية، والسياسية، والثقافية العالمية. وهو الكتاب الذى ربما نكون أول من أشرنا إليه فى مقال لنا ــ نهاية 2013 ــ عقب اطلاعى عليه وإدراكى لأهميته القصوى لمضمونه وأهمية ما أثاره من جدل. ثم قيامى بتلخيص أهم ما تضمنه فى مقال لاحقا قبل منتصف 2014. وأخيرا أمنيتى وتوصيتى بضرورة التصدى لترجمته. وهو الأمر الذى يحتاج إلى كيان مؤسسى لإنجاز الترجمة.
(2)
مع مرور الوقت، أدركت أن العقل المصرى منشغل بقضايا وهمية غارقة فى المحلية. ولم ينتبه لمجلد بيكيتى إلا عدة كتاب أقل من أصابع اليد الواحدة. وأن مؤسساتنا العلمية كما قلت أكثر من مرة متأخرة ــ على أحسن تقدير ـــ أربع موجات معرفية. فحركة فالترجمة والإبداع الوطنى، كلاهما متأخر جدا، إلا فيما ندر. وأماكن العلم: الحكومية والخاصة بأنواعها، تقدم علوما مدرسية فى إطار المذكرات والدروس الخاصة والإجابات النموذجية لأسئلة الامتحانات، وسرقة الرسائل، وتعليم الأدب والعلم والرياضة. عملية تبدو مؤسسية و«شغالة»، ولكنها خارج البحث وفهم المستجدات والربط بين العلم والمجتمع، وإفساح المجال للابتكار والمبتكرين. وإلى جانب هذا حركة ثقافية عامة تعيد تدوير النخبة الثقافية فى إطار «شللى»، كما تعيد طرح نفس القضايا.
(3)
فى هذا السياق، يتصدى «وائل جمال» و«سلمى حسين»، الباحثان الكبيران مقاما والصغيران عمرا وبإذن الله يكون مديدا ومبدعا، لترجمة مجلد بيكيتى المرجعى المهم: بأفكاره التى يتداخل فيها الاقتصاد والتاريخ والسياسة والمجتمع، وبجداوله وأشكاله ومنحنياته، ومصطلحاته،...إلخ. ليوفرا للقارئ العربى جسرا لإبداعات المجتمعات الحية الحقيقية. فلقد أنجزا عملا كبيرا، وسارا على درب جدنا الطهطاوى الذى أيقن أنه لا تقدم دون تجدد معرفى والذى قد يكون فرديا فى غيبة وانزواء وتدهور المؤسسات. هكذا شعر جدنا الطهطاوى بمسؤوليته تجاه الوطن. وهكذا أقدم وائل وسلمى على إنجاز عملهما المبدع. فجدار التخلف يحتاج فى لحظات تاريخية إلى إحداث «ثقب» فيه. ومع كثرة الثقوب ينهار الجدار وتنطلق الإبداعات بلا حدود.. وتنفتح العقول على جديد العصر.
(4)
إن ترجمة «رأس المال» لبيكيتى، أراها أكثر من مجرد ترجمة عمل علمى مهم. فهو عملية مركبة ذات دلالات رمزية كبيرة. أولها: هو أنها تدين مؤسساتنا العلمية والثقافية بامتياز. فأغلب ما هو مهم من أعمال كبيرة ومشروعات بحثية يتم عبر أفراد. وثانيها: تعكس أن هناك عقولا شابة مبدعة صاعدة «تِفرح»، من خارج المؤسسات التقليدية وغير مدرجة على الخريطة النمطية المتعارف عليها والتى أغلب عقولها فقدت صلاحيتها ولم يعد أمامها من أجل البقاء إلا أن تعيد تدوير نفسها فى إطار «شللى» يقوده كهنة/ حراس يعطون لنفسهم الحق فى إعطاء الشرعية والتى تكون فى الأغلب بحسب الولاء والخضوع. وثالثها: أن التقدم الذى تعد المؤسسية أحد مقوماته لا يمكن بلوغه إلا بمبادرات من عينة ما قام به وائل وسلمى. وهذه هى تجربة جدنا الطهطاوى.
(5)
تحية حارة لوائل جمال وسلمى حسين، فلقد أثبتا أن مصر ولادة.. وأن هناك خيطا حيا وممتدا يربطهما بجدنا التنويرى الكبير.. وأن علينا أن نفخر بهما وبشبابنا الحر المبدع والمجتهد.. ولو كان بيدى الأمر كنت قد منحتهما جائزة نعبر فيها عن تقديرنا لشابين وطنيين واعدين. وليست مصادفة أن مؤلف العمل الفرنسى شاب أيضا أربعينى استطاع أن ينجز عملا موسوعيا. ضفر فيه بين: التاريخ، والاقتصاد، والسياسة، والمجتمع،...، بإبداع.. وسوف نقدم أهم ما جاء به فى الأسابيع القادمة.. ولم يكن يستقيم أن نعرض للكتاب دون تحية للمترجمين.. مرة أخرى شكرا لوائل وسلمى وفى انتظار أعمالهما القادمة.. ونواصل.
نقلا عن المصري اليوم