فى إطار تحليلنا للصدامات الطائفية التى تعانى منها مصر خلال الشهور الأخيرة، عرضنا فى المقال السابق ما اعتقدنا أنه الحقائق والتفاصيل العشر الأساسية والمهمة، والضرورى استيعابها وفهمها فى إطار الصورة الكلية، حتى يمكن التوصل لتشخيص دقيق لما يجرى، ومن ثم اقتراح حلول ناجعة له.
وفى ظل غياب أو غموض تلك الحقائق والمعلومات الأساسية عن كثير من الجهود العملية لإنهاء تلك الصدامات أو النظرية لفهمها وتحليلها واقتراح حلول لها، تنوعت اتجاهات التفسير لها فى مصر عموماً وفى محافظة المنيا بصفة خاصة. وقد أخذت هذه التفسيرات المسارات التالية الرئيسية:
= التفسيرات الثقافية، وهى التى ترجع هذه الصدامات إلى نسبة الأمية المرتفعة وسوء التعليم وتدنى مستويات المتخرجين فيه بمختلف درجاته، وكذلك إلى غياب الثقافة بصورة عامة بين فئات الشعب المصرى، وانتشار ثقافة الكراهية والعداء للآخر فى أوساط عديدة منهم.
= التفسيرات الدينية، والتى تعيد الأحداث إلى الجهل بحقيقة الدينين الإسلامى والمسيحى لدى بعض أتباعهما، فضلاً عن وجود التطرف ومعتنقيه على الجانبين. ويرى بعض متبنى هذا التفسير أن عدم وجود علماء أو رجال دين أكفاء ومعتدلين يقودون أتباعهم من الديانتين كان له دور فى الأحداث، بالإضافة إلى وجود بعض المتشددين فيما بين هؤلاء مما يزيد الصدامات حدة. كذلك فقد ركزت بعض التفسيرات ذات الطابع الدينى على تاريخ وواقع المنيا خصوصاً ومحافظات الصعيد عموماً من وجود قبطى سكانى بارز وأعداد من الكنائس أكبر مما هو فى محافظات أخرى، ومن نشاط مكثف وكبير لجماعات الإسلام السياسى سواء من الإخوان أو الجماعات الجهادية كما سبقت الإشارة فى المقال السابق.
= التفسيرات الاجتماعية- الاقتصادية، وقد ركزت أكثر على نسب البطالة المرتفعة بالصعيد عموماً وبمحافظة المنيا خصوصاً وبالتحديد فى فئات الشباب. ورأت بعض التفسيرات أن البنية الاجتماعية للصعيد عموماً والمنيا كجزء منه والقائمة على العائلة والقيم التقليدية، ومنها الثأر، كان لها دور مهم فى الأحداث الطائفية. كذلك فقد رأت بعض التفسيرات أن حيازة الأقباط لنسب من الممتلكات والثروة فى المنيا ومحافظات أخرى بالصعيد أعلى من نسبتهم بين إجمالى السكان، كان وراء بعض هذه الأحداث. وأخيراً فقد انحازت تفسيرات لوجود «رشاوى» وإغراءات مادية من جانب الطرفين المسيحى والمسلم لاستقطاب متحولين من كل منهما للدين الآخر، كسبب لبعض تلك الصدامات الطائفية.
= تفسيرات فشل طرق المعالجة، ويعد أبرزها هو عدم قيام السلطات العامة فى الدولة، خاصة الأمنية منها، بتطبيق الإجراءات القانونية على الأحداث بما يفضى إلى معاقبة المدانين فيها وفقاً للقوانين، واللجوء بدلاً من هذا إلى استخدام الطرق العرفية مثل لجان المصالحات والوساطة والجلسات العرفية بكل أنواعها.
= تفسيرات التعمد، ومنها ما يركز على الداخل المصرى، حيث يرى أن هناك بعض العاملين فى بعض الأجهزة الأمنية أو الحكومية المحلية يقفون وراء النزعات الطائفية المتطرفة ضد الأقباط، سواء بتشجيعها أو بالتعنت فى تسهيل الإجراءات المطلوبة للأقباط على سبيل المثال للحصول على تصاريح بإقامة دور عبادة أو بترميم القائم منها. كما أن هناك تفسيرات للتعمد من داخل مصر، ترى أن جماعة الإخوان ومن يحالفها من جماعات متطرفة هى التى تثير تلك الصدامات وتساهم بقوة فى تصعيدها من أجل هز استقرار البلاد بتدمير وحدتها الوطنية، لكى يكون هذا مدخلاً لإحراج النظام السياسى وإفقاده داخليا وخارجيا مقومات القدرة على الاستمرار بالإمساك بحكم البلاد. وعلى المستوى الخارجى تبدأ تفسيرات التعمد من الحديث عن أدوار لأقباط المهجر وبعض الحكومات الغربية وتحريضهم لأقباط الداخل من جهة، وبإشاعة صورة مصر «الطائفية المتعصبة» فى الخارج. وتصل تفسيرات التعمد من الخارج إلى التحريض والتخطيط من جانب التنظيم الدولى للإخوان وبعض الدول الإسلامية ذات التوجه المحافظ للعناصر المتشددة والمتطرفة داخل مصر لكى تثير الصدامات الطائفية وتسعى لتصعيدها.
= تفسيرات التضخيم والمبالغة، وهى ترى أن وسائل الإعلام وبعض جمعيات المجتمع المدنى تلعب دوراً شديد السلبية فى تضخيم الأحداث الطائفية، وتشيع مناخاً من التصعيد يؤدى إلى تفاقمها وانتقالها من منطقة إلى أخرى فى مصر. وترى هذه التفسيرات أن هذه المسؤولية عن التضخيم والمبالغة تتحملها وسائل الإعلام والجمعيات المصرية الموجودة فى الخارج. ولا تعفى بعض هذه التفسيرات وسائل الإعلام المصرية من المسؤولية بالمبالغة فى تغطية بعض الأحداث الطائفية فى بعض المناطق المحددة وتقديمها باعتبارها ذات طابع عام يشمل المجتمع المصرى كله، الأمر الذى يثير النزعات الطائفية فى عموم البلاد وليس فقط فى مناطق الأحداث.
إن الحقائق العشر التى سقناها فى المقال السابق واتجاهات التفسير التى عرضنا لها فى السطور السابقة، توضح بوضعها معاً فى سياق واحد أننا إزاء تفسيرات تبدو منعزلة عن بعضها البعض ويبدو معظمها منفصلاً عن طبيعة الحقائق والمعلومات المحددة المتعلقة بالصدامات الطائفية والمناطق التى وقعت فيها. ويبدو واضحاً من بعض الحقائق الأساسية السابق الإشارة إليها أمران، واحد فقط هو الذى حظى بالاهتمام والتركيز، وهو تزايد وتركز الصدامات الطائفية فى أماكن محددة غالبيتها بمحافظة المنيا، أما الآخر الذى غاب عن غالبية التحليلات فهو تراجع هذه الصدامات عن كثير من المناطق التى كانت مكانا تقليدياً لحدوثها، خاصة فى محافظات أسيوط وبنى سويف وسوهاج وقنا وبعض مناطق القاهرة. وهكذا، فقد تم التركيز على السلبى مما يحدث، فى حين غاب الإيجابى عن التحليل والإعلام، وهو ما يؤثر باليقين على دقة النظر لما يجرى وصحة تحليله ومن ثم صواب ما يقترح لعلاجه.
من هنا فإن التوصل لتفسيرات ومن ثم حلول سريعة وآجلة لهذه الصدامات الطائفية، يستوجب إعادة النظر بتأن فى الحقائق العشر السابقة، وإضافة أخرى غائبة أو غائمة إليها، وإعادة قراءة التفسيرات المشار إليها فى ضوء هذا، ومن ثم التوصل إلى علاقات ارتباطية أكثر دقة ووضوحاً ما بين الحقائق والمعلومات وبين الصدامات الطائفية وأماكن وقوعها والملامح الاقتصادية والاجتماعية والسكانية والدينية لها، بما يسمح بالتوصل لتفسيرات أدق لأسباب وقوعها، وبالتالى سبل أفضل للتعامل معها وإيقافها. ولعل هذه المهمة تستلزم القيام بها عبر عمل جماعى منسق بين متخصصين فى كل المجالات السابقة، يتوافر لديهم جميعاً أكبر قدر ممكن من المعلومات والحقائق الموثقة والدقيقة عن كل ما يتعلق بتلك الصدامات، مع القدرة المحترفة على النظر فيها وتحليلها، وليس فقط مجرد الحماس والرغبة الوطنية الصادقة فى فهمها وتفسيرها وإنهائها.
نقلا عن المصري اليوم