بعد مذبحة أورلاندو، التى راح ضحيتها فوق الخمسين ضحية وخمسون مصابا، ونظرا لأن القاتل له اسم إسلامى ومن أصول أفغانية مع أنه وُلد بأمريكا وتربى بأمريكا (بلد العنف والعنصرية) أرجع الأمريكيون ذلك إلى الإسلام السياسى، أسوة بتنظيم الدولة الإسلامية داعش. ثم تدخل جميع الحركات الإسلامية فى هذا الإطار، بما فى ذلك الحركات الخدمية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية، بل العلمية والثقافية والفنية.
لا فرق بين تنظيم الدولة والإخوان، وإن كانت داعش هى أطولها ذراعا، وأكثرها قدرة على الدخول فى نزاع مسلح فى مواجهة الدولة بجيشها النظامى، كما هو الحال فى العراق وسوريا وليبيا واليمن.
أما التكوين الأمريكى، التربية الأمريكية، والأسلوب الأمريكى فى استعمال العنف بين البيض والسود، بل بين البيض أنفسهم، كل ذلك لا يدخل فى الاعتبار فى تفسير ما حدث فى أورلاندو. يكفى الأحكام المسبقة السريعة فى أذهان رجال الأمن ورجال الإعلام. ويبحث الإنسان عن الإسلام السياسى فى هذه الحادثة فلا يجد. وهو ما يحدث أيضا فى الداخل باعتبار الإخوان الشماعة التى يعلق عليها كل ما يحدث من مصائب وآلام داخل المجتمع. ارتبط الإسلام السياسى أو غيره فى الذهن الغربى بالعنف والقتل والتفجير والعدوان وقتل الأبرياء، مع أن الروس يفعلون ذلك فى سوريا.
لا يعنى الإسلام السياسى بالضرورة السعى إلى السلطة، وقلب النظم القائمة الكافرة. فالحاكمية لله. وهو شعار رفعه المودودى لتخليص المسلمين من سيطرة السلطة الهندية وإنشاء دولة مستقلة لهم فى باكستان وتجنبا للمذابح بين الطائفتين. وظهر من جديد عند سيد قطب فى مراحله الأخيرة، «معالم فى الطريق»، مرحلة السجن والتعذيب، ما أدى إلى تكفير المجتمع، وضرورة الخروج عليه لإزاحة الحاكم الكافر المرتد، وإقامة حكم إسلامى، الحاكمية فيه لله وكأن الله ينزل من علاه ليحكم، وكأن النص الدينى ليس له عدة تفسيرات وتأويلات عبر التاريخ، وكان سندا لشرعية كل الفرق الإسلامية التى كانت تعبر عن مصالح سياسية متباينة.
والحكم الإسلامى حكم ائتلافى بين جميع الأمم والأقوام كما هو واضح فى «ميثاق المدينة». لا يعنى التكفير والردة للمخالفين فى الرأى. ولا يعنى إلا فهما حرفيا للحدود والكفارات. ولا يعنى الجهاد بمعنى العدوان على المخالفين فى العقيدة أو الانتحار. لا يعنى إسالة دم الأبرياء، الأطفال والنساء والشيوخ. فالحفاظ على الحياة ضد الموت والانتحار، والعقل والتنمية الوطنية ضد الجهل، والدين أى القيم المعيارية التى يحتكم إليها الناس مثل حقوق الإنسان، والعرض أى الكرامة الفردية والاجتماعية، والمال أى الثروة الوطنية.
إن تفسير الغرب لمذبحة أورلاندو فيه كثير من الإسقاط من الذهن الغربى. إن القاتل استعمل القوة والمفاجأة، كما استعملتها أمريكا فى غزو العراق، وروسيا فى العدوان على سوريا. والنموذج النمطى موجود فى العدوان على برجى التجارة العالمى فى نيويورك 2001، وفى تفجيرى باريس وبروكسل. فالإسلام السياسى قائم على جماعات العنف والتوحش لجماعات مثل القاعدة وتنظيم الدولة. وفى الإسلام فى وسط الغرب هناك أطباء ومهندسون وكتاب وعلماء مسلمون. لا يذكرهم أحد بكلمة، وقد ساهموا فى بناء الحضارة الغربية الحديثة. وجماعات العنف قليلة إذا قيست بجماعات الإسلام السياسى الأخرى التى تعمل فى بناء المجتمعات التى تعيش فيها. لا فرق بين مسلم وغير مسلم. وكافر عادل عند الله خير من مسلم ظالم.
وقد عاش المسلمون مع غيرهم منذ نشأة الإسلام. وساهموا فى إعادة بناء الحضارات القديمة اليونانية والرومانية غربا، والفارسية والهندية شرقا بعد أن ترجموها وقرأوها، وأبدعوا فيها. ثم انتقلت الحضارة الإسلامية فى العصر الوسيط إلى الغرب بعد أن ترجمها إلى اللاتينية، ونشأ تيار مناصر لها، وهى الرشدية اللاتينية التى كانت أحد أسباب النهضة الأوروبية الحديثة منذ حركة الإصلاح الدينى عند مارتن لوثر فى القرن الخامس عشر، حتى اسبينوزا فى القرن السابع عشر. وكلاهما يستشهد بالإسلام كعلاقة مباشرة بين الإنسان والله، دون كنيسة أو سلطة دينية.
وما سبب اختيار القاتل نادى اللواطيين، المثليين؟ هل لأن القرآن يهاجمهم أشد هجوم، ويعتبر اللواط- وهو منتشر فى جميع أنحاء الغرب، بل فى الخليج- شذوذا عن الطبيعة الإنسانية؟ وقد أرسل الله نبيا خاصا لهم، النبى لوط، ليحذرهم من عواقبه.. هل هو مرض نفسى يصيب الشباب بصرف النظر عن أصوله العرقية والدينية؟ فقد حدث ذلك فى المجتمع الأمريكى عدة مرات. وجماعات الإرهاب والعنف فى بنية المجتمع الأمريكى الذى قام على تجارة الأفريقيين من أفريقيا عبيدا، بعد أن كانوا أحرارا فى بلادهم، وجلبهم إلى العالم الجديد لاستخدامهم كعمالة يدوية. واستعمال القوة فى المجتمعات لا يعترف بحدود الدول. ولا يفرق بين قوة إسلامية كافرة، لأنها لا تحكم بشرع الله ودول كافرة أصلا. فكلاهما كفرة. بل هناك ظلم اجتماعى تشعر به بعض جماعات العنف والتى لا تريد أن تتأقلم مع المجتمعات التى تعيش فيها ومعاملتها بالحسنى. والآن تنشأ جماعات الرفض باستمرار ليس فقط داخل الغرب بل أيضا خارجه والتى ترفض الغرب، مثل «بوكوحرام» فى نيجيريا. تتعامل مع الغرب بالرفض المطلق وتعتبر المتغربين ليسوا فقط مقلدين، بل أيضا كفرة مرتدين. تاريخ الغرب الباقى فى ذهن بعض الجماعات المناهضة له هو تاريخ استعمارى يقوم على قتل عشرات الألوف من الوطنيين، وتاريخ انحلال، لا يعرف للأهواء والشهوات ضوابط.
ربما هى دورة للتاريخ بدأت منذ خمسة قرون فى الغرب، وتنتهى الآن بالتفاعل مع الإسلام العنيف الغاضب، وليس الإسلام الحضارى المسالم، كما حدث فى البداية، بالرغم من اختلاف الظروف. وكما تنبأ فلاسفة التاريخ من قبل بنهاية العصر الوسيط وبداية العصور الحديثة، فإنهم يتنبأون اليوم بنهاية دورة الحداثة، مثل اشبنجلر فى «سقوط الغرب». ويظهر فيه الآن كتابات تهدم البداية، مثل: التفكيكية، وما بعد الحداثة، تحطيم العقل، ضد العقل، ضد المنهج. ولم يوجد شىء فى العصر الحديث، مثل العقل والمنهج إلا هدمته.
والسؤال الآن: هل الإسلام والغرب حليفان أم عدوان؟ هل يمكن أن يتبادلا الدورات سلما، نهاية الغرب، وبداية الإسلام فى صورة حضارية، وليس فى صورة همجية، وبيان أن الحياة والحفاظ عليها أول أساس فى الشريعة؟
ويبدو أن الغرب عدو لجماعات العنف باللسان، ولكن بالقلب معها، مادامت تهدف إلى تفتيت الدولة الوطنية وإقامة الخلافة عودا إلى العصر الوسيط، وترك إسرائيل. فلم يقم تنظيم الدولة حتى الآن بأى عمل ضد الاحتلال الإسرائيلى لأراضى العرب خاصة القدس، لا باللسان ولا بالقلب ولا باليد. قد تكون الخطة تدمير الدول الوطنية الكافرة أولا قبل التوجه إلى قضية العرب والمسلمين الكبرى، فلسطين. وكما قيل فى المثل الشعبى «موت يا حمار عبال ما يجيلك العليق».
ولا يُذكر للإسلام السياسى دوره الإيجابى فى تاريخ العرب الحديث ودوره فى تحرير الشعوب من الاستعمار مثل الجزائر. ولا يُذكر دوره فى نهضة العرب الحديثة فى مصر ولبنان والشام والعراق. لقد كانت دمشق وبغداد- وهما الآن تحت التدمير- عواصم حضارية قديمة. أعطت العالم العلوم والفنون. واستمر ذلك فى الأندلس، فى غرناطة وقرطبة وإشبيلية. وفيها ازدهرت الحضارة اليهودية. ومن يدرى فى المستقبل تكون الدورة الإسلامية الحضارية ليست ببعيدة عندما يتجدد الإسلام، ليس فقط فى الخطاب الدينى، بل أيضا فى الفكر الدينى مادامت الظروف الاجتماعية والسياسية قد تغيرت. فقد انقضت عشرة قرون، ومازلنا نكرر ما أبدعناه، وكأن الزمان لا يتقدم والتاريخ قد ثبت. ونحن بدأنا حركات الإصلاح الدينى منذ قرنين ومازال يتعثر. خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف. والتحدى الآن استئناف حركات الإصلاح وإقالتها من عثرتها، واستئناف حركات التجديد، من الإصلاح إلى التجديد إلى الثورة الفكرية.
نقلا عن المصري اليوم