فى ختام حديثنا عن هذه القضية نطرح رؤية عامة للواقعة التى تمثل جزءاً من ظاهرة مَرضية فى المجتمع المصرى ونطرح رؤية للخروج من هذه الظاهرة والتغلب عليها تحصيناً لتماسك مجتمعنا المصرى ومن على أرضية مصرية، فالعنصرية توجد على المستوى الفكرى فى كافة المجتمعات وإن بدرجات متفاوتة، ووفق هذه الرؤية أيضاً فإن عدم وجود اعتداءات جسمانية أو أعمال قتل لا يعنى خلو المجتمع من العنصرية، بل العنصرية كامنة على مستوى الفكر، وأسيرة الأحاديث الداخلية، تتحين الفرصة للخروج والتعبير عن نفسها بشكل مفتوح قد يصل إلى جرائم الإبادة. وكثيراً ما تتكشف العنصرية الكامنة عند الرد على فعل عنصرى قادم من آخر أو آخرين، لذلك من المهم جداً مواجهة العنصرية على المستوى الفكرى وهى مهمة شاقة تتطلب توافر قناعة فكرية بالقيم الإنسانية وفى مقدمتها المساواة والحرية، وقبول التنوع والاختلاف. وهنا يكمن التحدى الأبرز وهو مواجهة الأفكار العنصرية والتمييزية فكرياً وذلك عبر أدوات التنشئة التى تتمثل فى الأسرة المصرية، ودور العبادة من مسجد وكنيسة والدروس الدينية التى يتلقاها الأطفال والشباب، والمدرسة والآداب والفنون وأخيراً وسائل الإعلام المختلفة، فمواجهة العنصرية فكرياً تبدأ منذ نعومة الأظفار وعبر أدوات التنشئة التى تتشارك فيها الأسرة والدولة.
مواجهة العنصرية على المستوى الفكرى تحول دون دخولها إلى مراحل تالية ممثلة فى البعدين الانفعالى ثم السلوكى، فالمواجهة على المستوى الفكرى لا تتطلب سوى نشاط فكرى، كما أنه بإمكان الدولة أن تستخدم ما لديها من قدرات من أجل نشر فكر إنسانى عقلانى، فكر يتوافق والمواثيق الأساسية لحقوق الإنسان، فكر يتواءم مع الفطرة السليمة والتوازن النفسى. وهنا لا بد من تطوير وتحديث الخطاب الدينى، والتركيز على القيم الإنسانية، والابتعاد عن بث أفكار الكراهية والتحريض، والتوقف عن الدعاء على المختلف دينياً وطائفياً، وتنقية التراث مما علق به من أفكار ودعوات أبعد ما تكون عن جوهر الدين، واحترام العقد الاجتماعى بين المجتمع والحكومة الذى يقول إن وظيفة الحكومة أرضية، أى تسهيل حياة الإنسان والأخذ بيد الفئات الضعيفة فى المجتمع، فليس من وظائف الدول إدخال الإنسان الجنة، فتلك علاقة بين الإنسان وخالقة وحده جل وعلا هو الذى يقرر مصير الإنسان، ومن ثم فلا وظيفة دينية للدول، بل تقف الدولة على مسافة واحدة من كل الأديان والعقائد، وتظلل كل من يحمل جنسيتها بالحماية والتأمين وتعامل جميع مواطنيها على قدم المساواة.
ترك الأفكار التمييزية والعنصرية تتطور وتدخل مرحلة «الانفعال» يجعل المواجهة عسيرة للغاية إذ ينقلها إلى مرحلة السجال والمحاججة، وهى المرحلة التى يعيشها كابتن إكرامى ورفاقه وكل من يشاركه الفكر ويشاطره طريقة التصرف البغيض تجاه المغاير دينياً، فقد عبر عما يحمل من فكر عنصرى بغيض تجاه المخالف دينياً وانفعل فى المشهد وقام بطرد الطفلين مينا وبيير، معبراً عما يحمل من فكر يقول له إنه سوف يثاب عما فعل وإن سيئات له ستذهب لقاء ما أقدم عليه من ظلم بيّن لطفلين مسيحيين.
من هنا نقول إن المطلوب أولاً إزالة ما فى العقول من أفكار عنصرية رافضة لقيم المواطنة والمساواة، قبل تبنى القيم الأخيرة. أما ترك الأمور تتفاعل لتنتقل من المكون الفكرى إلى الانفعالى فسوف يكرر مشاهد ظلم مينا وبيير فى كل المجالات، والخطر الأكبر والأشد هنا هو ترك الأمور إلى أن تصل لمرحلة المكون السلوكى (بمراحله الخمس المختلفة التى تتراوح ما بين الامتناع عن التعبير خارج إطار الجماعة والتجنب، وبين ارتكاب المجازر والمذابح) فيعنى أن الخطر قد تفاقم وربما يكون وقت العلاج قد مضى والمجتمع قد انقسم ومن ثم يدخل فى مراحل صراع مرير دخلت فيه مجتمعات أخرى وانتهت بالدمار والخراب. الفرصة متاحة اليوم لبدء عملية إصلاح حقيقى شامل، والبداية تكون بقرار من الدولة التى تمتلك قدرة على التحكم فى غالبية أدوات التنشئة من مناهج تعليم، وإصلاح الفكر الدينى ومن ثم خطاب دينى جديد، وتوظيف الفنون والآداب وأيضاً وسائل الإعلام فى نشر قيم المساواة، والعدل، وقبول التنوع والتعدد والاختلاف، وقبل كل ذلك غرس قيمة المواطنة فى نفوس الجميع.
نقلا عن الوطن