فى زيارتى المعتادة لمدينتى الكردى دقهلية، فجعت أنا وأهالى المدينة من حادث سيارة مروع وقع فى المسافة بين مدينة دكرنس ومدينة منية النصر، ويسميها أهالينا «بوصلة الموت»، توفى على أثرها شاب رياضى جامعى فى مقتبل العمر إثر انقلاب سيارته بترعة البحر الجديد، ولقى حتفه، وما زالت دموع أهله لم تجف حتى الآن. الغريب أن هذه المسافة معروفة لكافة المسئولين فى المحافظة، وتربط بين عدة مراكز مختلفة وصولاً لمدينة المنصورة العاصمة (طريق واحد ضيق) التى حصدت أرواحاً كثيرة بنفس الأسلوب دون أن يتحرك مسئول واحد لإصلاح الطريق.كم ناشد أهالى المدينة والمدن والقرى المجاورة المسئولين التحرك لمنع هذا الأذى المتكرر عنهم ولا مجيب؟ وكم رفعوا من نداءات الاستغاثة لرئاسة مجلس الوزراء ووزارة المواصلات ولا سميع لهم أيضاً؟ الغريب فى الأمر أن حادثاً مماثلاً فى نفس المكان، بذات السيناريو حصد أرواح اثنين آخرين بعد أسبوع واحد من الفاجعة الأولى، ولم يتحرك المسئولون أيضاً، وكأن الأمر لا يعنيهم فى شىء، والبقية تأتى، ولا عزاء للسادة المسئولين.
مصائب الطرق فى بلادى تحصد عشرات الأرواح يومياً، ولم يعد لها فى قوس الصبر منفذ ولا مخرج لدينا، وضاقت صدور الناس من هذا الهم ولا ملجأ ولا ملاذ لنا سوى الله، وكم كان بودى أن يشعر المسئولون فى بلادى بفاجعة فقد الابن أو العزيز حتى يشعروا بفداحة ما يرتكبونه من تقصير وتسيّب وإهمال، ويقاسون فداحة الثمن الذى يدفعه أهل الضحايا كل يوم، لكن ما ذنب الأبناء فيما يرتكبه الآباء من آثام. كل يوم يمر علينا يحمل فى أوراقه أعداداً من القتلى والمصابين بلا جريرة أو خطيئة، ييتم فيه أطفال صغار، وترمل فيه شابات فى بداية حياتهن، وتفجع الثكالى من الأمهات، ويضيع من الأب السند والمعين فى غياب الولد، وما زال تكاسل المسئولين وفوضى المرور وفساد الذمم وخرابها يستكمل به كل يوم مسلسل المآسى الفائتة. لا أتصور أن المسئولين فى بلادنا سيلتفتون إلى هذه الكوارث، فلم يلتفتوا يوماً لحوادث قطارات حصدت الآلاف فى المرة الواحدة،
أو مركب حصدت ألفين فى المرة الواحدة أيضاً، أو سقوط الطائرة الروسية التى ما زلنا ندفع ثمنها حتى الآن، فإذا كانت ضمائرهم تكاسلت عن الآلاف وعن انهيار السياحة، فهل تتحرك الضمائر فى موت العشرات؟ إن ضحايا الإرهاب يتضاءلون أمام ضحايا الطرق ويتوارون خجلاً من هول أعدادها ومن بشاعة الموت وصورته القاسية المروعة، ومن سوء الإهمال وفوضى الإنقاذ والإسعاف، حين شاهدت آخر حادث على طريق ميت غمر، الذى راح ضحيته ست عشرة ضحية كان المشهد لا يقل بشاعة عما نشاهده فى موقعة حربية، تناثرت فيها أشلاء الضحايا فى أرض المعركة، وغطت دماؤهم الطريق، وامتزجت بلون العويل وصراخ الأهل والأحباب ولا مجيب ولا مساءلة للمقصرين. والله لو حدث فى دولة تحترم مواطنيها لقدمت قياداته للمحاكمة ليس بتهمة التقصير فى أداء أعمالهم ولكن بتهمة القتل العمد. لقد تفوقت مصر على نفسها وعلى العالم فى أعداد قتلى حوادث الطرق، حتى أصبحت أعداد القتلى خبراً وعدداً نقرؤه يومياً دون أن يحرك فى مسئولينا ذرة من خجل أو شعور بالأسى والندم، أو تلتفت ضمائرهم تؤنبهم وتدفعهم إلى إصلاح هذه المنظومة المخجلة، وللأسف آخر تقرير للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء عن التكلفة الاقتصادية لحوادث الطرق هى خمسة وثلاثون مليار جنيه بين متوفين وسيارات وتعويضات، وتزيد أعداد ضحايا الطرق فى مصر على سبعة آلاف قتيل، وهو رقم يزيد على ضحايا حروب العالم فى الكرة الأرضية فى نفس العام. لن يتحرك المسئولون فى بلادى لحل هذه الكارثة، فهذه قلوب قد تحجّرت، ونفوس قد أصابها العطب ونزعت منها الرحمة، حين تسمع وترى يومياً المئات من شبابنا وأبنائنا يذبحون يومياً وتسال دماؤهم على أسفلت الطرقات دون وجع ضمير أو إحساس بذنب.
هذا التسيب والإهمال والفوضى من أجهزة الدولة جميعها له النصيب الأوفر فى مصيبتنا، بداية من إنشاء ورصف طرق غير مطابقة للمواصفات فى التنفيذ، وغض الطرف عنها مقابل رشاوى وعمولات تدفع إلى مسئولين على أعلى المستويات، إلى ترك الطريق دون استكمال باقى الأعمال نتيجة الإسراع فى إقامة احتفالات الافتتاح قبل استكماله، وترك باقى الأعمال بعد فضه، كالعلامات الإرشادية والإنارة وعلامات الأسفلت التى تنير الأسفلت ليلاً، ونقاط المراقبة للحد من تجاوز السرعات المقررة، وتجاوز الحمولات المقررة لسيارات النقل، وصلاحيات السيارات والإطارات المستخدمة والمتهالكة والسماح باستيرادها من الخارج، فوضى وفساد استخراج الرخص دون اختبار حقيقى، التسيب مع سائقى عربات النقل مقابل الرشوة العلنية، المقطورات التى لم تحل مشكلتها حتى الآن كل هذا وأكثر، حتى أصبحت الفوضى والتسيب صفة تحافظ على بقائها الأجهزة المعنية، حتى تجنى منها المال الحرام، على حساب أرواح الناس وضياع مستقبل أسرهم.
لقد أصبحت حياتنا وأبناؤنا فى خطر عظيم، ومطلبنا الرئيسى قبل لقمة العيش، وقبل التوسع فى المشروعات العملاقة إذا كنا لا نجيد العمل فى خطوط متوازية، هو حماية أرواح الناس على الطرق من الحوادث المهلكة والمدمرة، وليست الروشتة غائبة عن المسئولين، فهى مكتوبة ومكررة يعلمها القاصى والدانى، اللهم إذا توافر صدق النوايا، والإخلاص، والرغبة فى محاسبة المقصرين عن كل تقصير وإهمال (لقد أسمعت لو ناديت حياً.. ولكن لا حياة لمن تنادى).
نقلا عن الوطن