تناول الإعلامى الموهوب إبراهيم عيسى (فى صحيفة المقال 13/ 8/ 2016) تعليقه الساخر أسطورة كليات القمة (طب، هندسة، صيدلة، اقتصاد) التى يرنو إليها، ويحلم بدخولها طلبة الثانوية العامة ومعهم أولياء أمورهم، وكأن ذلك هو بطاقة الدخول إلى الجنة، والطريق إلى الشُهرة، والثروة والجاه، فى الحياة الدُنيا!
ومثل كل ما يجود به قلم إبراهيم عيسى، يكون مدعاة للتأمل والتفكير، وضرورة مُراجعة كثير من المُعتقدات والمُمارسات فى حياتنا المصرية المُعاصرة، بين العامة والخاصة على السواء.. ولأن هذا هو موسم السباق والتلهف على الالتحاق بإحدى كُليات القمة تلك، عادت بى الذاكرة إلى مثل هذه الأيام منذ أكثر من نصف قرن، حينما تقدمت للالتحاق بالجامعة، بعد حصولى على شهادة الثانوية العامة، وكُنت ضمن أوائل تلك الشهادة فى ذلك العام. وكم اندهش كثير من الأهل والأصدقاء والزُملاء باختيارى كلية الآداب، جامعة القاهرة، ثم تخصص لم يكن كثيرون قد سمعوا به، وهو علم الاجتماع. ولم تكن تلك الكلية، ولا ذاك التخصص، وقتها، ولا الآن، مما يندرج تحت اسم كُليات القمة.
ولم أندم، خلال النصف قرن التالى على ذلك الاختيار، ولم يكن قرارى واختيارى نتيجة عبقرية موروثة، أو مُكتسبة، ولكن كانت بسبب نصيحة أسداها لى أحد المُعلمين، وأنا ما زلت فى صفوف التعليم الثانوى. وسبحان الله كان الرجل شكلاً وموضوعاً يُشبه الصديق إبراهيم عيسى.
كانت نصيحة أستاذى الراحل الساخر، والمُشرف على فريق التمثيل فى مدرستنا، الملك الكامل الثانوية بالمنصورة: «لا يهم أى كلية أو أى تخصص يختاره الطالب، المهم أن يستفتى قلبه، ويختار ما يحب أن يدرسه، ويتفانى فى ذلك فيما بعد». وقد شاء قدرى وقدر زميل آخر من نفس المدرسة، فى نفس السنة، أن نكون ضمن أوائل الثانوية العامة - هو فى القسم العلمى، وأنا فى القسم الأدبى. ورغم تفوق ذلك الزميل، ومجموعه الذى كان يؤهله لدخول الطب أو الهندسة أو الصيدلة، إلا أنه اختار كلية العلوم، قسم الطبيعة. واخترت أنا كما ذكرت أعلاه، قسم الاجتماع كلية الآداب.
ذلك الزميل، د. حلمى شريف، هو الآن أستاذ الطبيعة النووية فى إحدى أكبر الجامعات الكندية، بعد رحلة عذاب ومُعاناة وخيبة أمل، حينما أصاب الإهمال المُفاعل النووى المصرى فى أنشاص، الذى كان قد تأسّس فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وأُهمل فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات.
لقد كتبت فى نفس هذا العمود منذ أسبوعبن مقالاً بعنوان: «فى ضيافة د. أحمد زويل، وزوجته السورية ديما الفحّام». وضمن ما تناوله حديثنا المُمتد فى تلك الأمسية بمنزله فى جنوب كاليفورنيا، قبل ثلاثة عشر عاماً، ما تُلخصه العبارة المأثورة: «لا كرامة لنبى فى أهله»، أو العبارة الأخرى أن «زمّار الحى لا يُطرب». فكثيراً ما يتم الاعتراف بالمصريين الذين أنجزوا فى مجالات تخصصهم فى الخارج، قبل أن يحدث ذلك- إن حدث- فى وطنه وبين أهله!
وبمناسبة سيرة الراحل أحمد زويل، صاحب نوبل فى الكيمياء، جاء ذكر راحل مصرى عظيم آخر، وهو نجيب محفوظ. والطريف أنه لا محفوظ ولا زويل دخلا أو درسا فيما تُسميه الصحافة هذه الأيام كليات القمة. ومن المؤكد أن أحداً من خريجى تلك الكليات، منذ بداية الجامعات الوطنية، قد حاز من الجوائز العلمية المعروفة فى العلوم أو الآداب.
لذلك فإن الدرس الذى يجب أن نبثه ونُعمّقه فى عقول وقلوب أبنائنا هو الاجتهاد والتفانى فى أى مجال من مجالات الحياة. وضمن دراسات العبقرية، فإن أهم نظرية مُستقاه من سيرة العُظماء على مر القرون، هى ذلك التفانى. وحينما سُئل أينشتاين، مُكتشف قانون النسبية وأحد آباء القُنبلة الذرية، عن سر نبوغه، قال قولته المشهورة: «خمسة فى المائة وراثة، وخمسة فى المائة حظ، وتسعين فى المائة سهر وعمل وعرق»!
وحينما استرجعت مع الراحل أحمد زويل تلك المقولة لأينشتاين، وافق الرجل عليها على الفور، وقال صَدَق أينشتاين تماماً.
ولذلك نُكرر لأبنائنا الذين يبدأون دراساتهم الجامعية، مع ظهور هذا المقال فى «المصرى اليوم» والصُحف العربية الأخرى، أنه بصرف النظر عن الكلية أو التخصص الذى دخلوه، سواء برغبتهم أو بقرار مكتب التنسيق، إن الأهم للنبوغ والإنجاز إلى أعلى المراتب المحلية والعالمية هو الجد والاجتهاد والتفانى فى أى مجال، سواء كان فى الطب البيطرى أو الطب البشرى، فى الأدب العربى أو الاقتصاد الدولى!.
والله على ما أقول شهيد..
وعلى الله قصد السبيل.
نقلا عن المصري اليوم