بقلم المهندس باسل قس نصر الله
في آذار الماضي من هذا العام 2016 حدثت تفجيرات في مطار بروكسيل، تبنتها جماعات تكفيرية تدّعي الإسلام، فما كان من سماحة الأخ الكبير الشيخ أحمد حسون مفتي سورية، إلا أن كتب رسالة تعزية الى الشعب البلجيكي موضحاً عدم ربط الفاعلين بالإسلام ووجهها الى رئيس أساقفة بلجيكا.
تم إرسال الرسالة باللغتين العربية والانكليزية، وأنا كنت أتابعها للتأكد من وصولها الى وجهتها، ولكن للأسف، ورغم تأكيدات تلقيناها أنها وصلت وتم تسليمها إلا أن الإتصالات التي أجريتها عن طريق الفاتيكان، أعطتني ردوداً سلبية وأن الرسالة لم تصل.
قمت بوسائلي وعلاقاتي بطلب لقاء رئيس الأساقفة البلجيكي لأسلمه نسخة رسمية أخرى من الرسالة، وهكذا أصبح هناك نصين أصليين واحد تم إرساله أولاً بطرق خاصة عن غير طريقي، والثاني حملته معي لأسلمه بيدي ودون أن تردني أي موافقات بأن رئيس الأساقفة سيستقبلني.
وسافرت الى بيروت حيث قمت باتصالاتي معتمداً على علاقاتي الشخصية ومعارفي... وجاءني الجواب من بلجيكا وكان مضمون البريد الالكتروني واضحاً ... أن رئيس أساقفة بلجيكا سيستقبلني في 31 ايار الساعة الثالثة بعد الظهر.
حقيقة لم أكن أتوقع أن ينجح مسعاي في إجراء اللقاء مع رئيس أساقفة بلجيكا الكاثوليكي جوزيف دو كيزل. وقد تضافرت عدة عوامل لإنجاح اللقاء أهمها نشاط الأب الياس عكاري من طائفة السريان الأرثوذكس في بلجيكا والشخصيات المتعاونة معه.
وكان لي لقاءات تلفزيونية في بيروت منها على قناة الميادين حيث أعلنت أنني سأسافر الى بروكسيل لتسليم رسالة التعزية لرئيس الأساقفة.
وصلت الى بروكسيل وكان في استقبالي – مشكوراً - قريبي المهاجر كرم أصلو الذي كان قد أمّن لي كل النواحي اللوجيستية وتابع معي ذلك خلال فترة إقامتي. وأخذني مباشرة الى كنيسة في ضواحي بروكسيل وضعتها البلدية في خدمة المهاجرين السوريين والعرب، وكان القداس الأول فيها، وقد شاركت به، وبعد القداس ومراسم الصلاة جلست معهم وأغلبيتهم هاجرت من سورية بسبب الأزمة الشرسة التي تمر بها سورية.
بعدها تناقشت في برنامج اللقاءات وطلبت تأمين لقاء مع المسؤول الأول في بلدية بروكسيل، وكان لي ما أردت، بعد الضغوطات الكبيرة التي مارسها أصدقائي لاستقبالي مع كل المنع الموجود لعدم إستقبال لكل ما هو مسؤول سوري. والحمد لله أن صفتي الدينية وتطوعي الاختياري للعمل كمستشار للمفتي، إضافة الى كوني أحمل الجنسية الاوروبية، كل ذلك سهّل لي مهمتي في مقابلتي في بلدية بروكسيل.
في اليوم الموعود للقاء مع السيد آلان كورتوا المسؤول الأول في بلدية بروكسيل، توكلت على الله وطلبت منه أن يتكلم فيني خلال اللقاء.
إستقبلني السيد كورتوا مرحباً ومتحفظاً، وهو يعلم تماماً أن سيلاً من الهجوم سيواجهه نتيجة استقبالي، جلسنا على طاولة الإجتماعات على ضلعين متجاورين، وبعد كلمات الترحيب الرسمية الباردة باللغة الفرنسية التي استخدمتها لكل الحوار، قدمتُ له سبحة من قبل سماحة مفتي الجمهورية وهي من منشأ صيني مكتوب بوضوح على الكيس الشفاف، وقلت له أنها من سماحته ثم أردفت مازحاً: تخيل أن الصين وصلت الى تصنيع السبحات الإسلامية.... فضحك طويلاً ونجحت في كسر حاجز الجليد.
تكلم بأنه حزين لما يحدث على الأرض السورية وأنه يرى الأقنية الإعلامية التي تنقل الدمار الحاصل في المناطق الموجودة في أيدي المسلحين بكل فئاتهم، فسألته اتعتقد أن التهديم والدمار فقط هناك؟ فأجابني بأنه هكذا يرى وسألني بدهشة اليس هي كذلك الأمور؟
فما كان مني إلا أن أخرجت له صوراً لكاتدرائية المورانة بحلب التي تدمّر سقفها بالكامل وغيرها من الصور للدمار الحاصل في المناطق التي تتواجد فيها الدولة، وقلت له: ليس الدمار في مناطق دون مناطق فقط، إنما الدمار موجود في المناطق التي تتواجد في الدولة أيضا. فقال مندهشاً أنه لم يعتقد ذلك.
وصلنا في نقاشنا الى الوضع الخدمي في كل سورية، ومدينة حلب خاصة، فقلت: في هذا الوقت تماماً تتمّ في مشفى القلب الجامعي عملية جراحية لقلب مفتوح لأحد أصدقائي وقد ساعدني الكثير في اجرائها، من سماحة المفتي العام الى جمعيات خيرية متعددة، ثم أعقبت: وأنت تعرف ما تعنيه جراحة القلب وبشكل أبسط كل العمليات الجراحية، بحيث عليك أن تؤمن الكهرباء والمواد الأولية الطبية والاستقرار للطاقم الطبي وخدمات ما بعد العملية، كل ذلك في وقت تُقاطعنا دول أوروبية وغيرها، بحجة الدفاع عن الشعب وإسقاط النظام، ثم تابعت: أليس هذا ما تقولون؟ ... ان النظام الذي تحاربونه هو نفسه الذي يهتم بأدق الأمور الخدمية للمواطن ضمن المعطيات التي بين أيديه، وهو يستقبل من كل المناطق ويقدم الخدمات لكل السوريين.
صمتَ طويلاً ثم قال إننا لا نريد أن نؤذي الشعب السوري. فأجبته بسرعة: ولكنكم تفعلون عكس ما تعلنونه، تقطعون عنه الأدوية والكثير من مستلزمات الحياة، من المواد المعقمة للمياه الى الأساسيات في الحياة، وغيرها الكثير ... والى الآن سيدي، وهو أهم شيء، أنكم قطعتم كل أقنية التواصل الرسمية، والآن اكتشفتم أن هذه التي تمت تسميتها "ثورة"، والتي قام رئيسي بنفسه - في بداياتها - في إحدى خطاباته، بالقول أن مطالبهم فيها من الأحقية. ولكنكم تجاهلتم ذلك حتى وصلتم اليوم الى اكتشاف أنها فكر تكفيري استغلّ محاربتكم لسورية، واستغلّكم كممرات آمنة له وعاد اليكم بالتفجير والتخويف وغيرها، وانا سيدي موجود هنا ومعي رسالة تضامن وتعزية وتوضيح للاسلام الصحيح، وهي موجهة من مفتي سورية الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون الى المُناظر له وهو رئيس أساقفة بلجيكا الكاثوليكي، هذه الرسالة هي رسالة تنبع من عقل وقلب مؤمن الى شعب بلجيكا.
وقدمت له صورة عن النص الانكليزي.
صمتنا جميعا وهو يقرأ الرسالة بهدوء وروية، وقد لاحظت على محياه علامات التعجب.
أنهى الرسالة ورفع رأسه الي قائلاً بشكل بطيء وهو يلفظ كنيتي بصعوبة: سيد قس نصر الله، المفتي حسب ما شرحتَ لي هو أعلى مرجعية إسلامية سنية في سورية وأنت كما عرفتُ أنك مسيحيٌ كاثوليكي، وتتكلم لغتنا مثلنا، فكيف ذلك؟ ما هو الشيء المشترك بين المفتي وبينك؟
أجبته بابتسامة تُعلن أنني كنت أتوقع هذا السؤال، ثم قلت: إن سماحته هو مفتي كل السوريين وليس طائفة سنية أو شيعية، وستستغرب إن قلتُ لك أن المسيحيين يتابعون كلماته وخطاباته وندواته مثلهم مثل المسلمين، وهنا أريد أن أوضح أن لكل طائفة مرجعيتها الدينية، ولكن المفتي هو مرجعية محبة ووئام، لذلك تبوأ على قلوبنا جميعاً، ولن أستطيع أن أشرح أكثر لأنك لا تعيش في سورية.
صمت لحظات وقال: هل أتيت الى بروكسيل بعمل ما؟، قلت له: لا، أنا أتيت الى بلجيكا على نفقتي، لأسلم الرسالة فقط، وأستغليت هذه الفرصة برؤيتي لولدي الموجود معي – وأشرت اليه – والقادم من كولن في المانيا، ولو أردت ان أراه فقط، لكان أفضل لي أن اذهب اليه.
صمت أيضاً مستغرباً، ثم قال: إن ما تنقله الرسالة يدل على أنها فعلاً رسالة محبة من سورية، وهذا شيء جديد، وأنا بعد أن استمعتُ الى شرحك، بدأت تتكون لدي نظرة أخرى عن سورية، وعن مفتيها الذي هاجمته وسائل الإعلام كثيراً، إنه يقدم لنا تعازيه وتنديده بما حصل، في الوقت الذي لم نسمع احتجاجاً واسعاً من المواطنين المسلمين في بلجيكا
صمت مطولاً مفكراً وقال: بعد عدة ساعات من الآن سيكون لي لقاء مع جلالة الملكة وأنا فكرت أنه بما أن الرسالة تُختتم بجملة "تعازينا الى جلالة الملك والشعب البلجيكي"، فمن الضروري أن أنقل لجلالتها صورة عن الرسالة، وأشرح لجلالتها وضعاً لم نعهده من قبل، مسيحي ينقل رسالة المسلم، إسمح لي أن اؤكد لك مكرراً أنها رسالة سلام، وأن سفرك من سورية ومن حلب تحديداً، فقط لإيصالك الرسالة، هو أيضاً رسالة مهمة يجب أن تجعلنا نعيد النظر في الكثير من الأمور.
ثم تشعب الحديث الى مواضيع متعددة، وقدمت شرحاً للفكر التكفيري وكيف وصل، وتطرقنا الى المواضيع الخدمية التي تهم مدينة حلب وتحدثنا مطولاً بذلك، فقال لي: أنه سيوجه أحد أعضاء المجلس البلدي - الذي كان حاضراً معنا في اللقاء - ليبقى على إتصال معي للتنسيق عن إمكانيات التعاون بين مدينتي بروكسيل وحلب.
بعد أكثر من ساعة، قمنا من طاولة الاجتماع وأخذنا الصور التذكارية، ثم خرجنا معه، لإصراره على وداعنا في البهو، وشكرته على الوقت الذي منحه لي، فأجاب أن وقته متوفر دائماً لكل من يعمل لأجل السلام، ثم قال لي أنه يود أن تكون له بصفته قنوات اتصال مع المفتي والافتاء عن طريقي.
بعد خروجنا من دار البلدية، توجهنا الى "ميخلِن أو ميشلِن" وهي مدينة قريبة من بروكسيلـ ويقع فيها مقر رئاسة اساقفة بلجيكا، حيث كنت قد تواعدت مع أصدقاء لي أعضاء في البرلمان الأوروبي والبلجيكي والفلمنكي، وبعد استراحة قصيرة قمنا جميعاً الى مكان الاجتماع.
دخلنا الكاتدرائية الكبيرة، وقادتنا موظفة في الكنيسة الى مكتب رئيس الأساقفة الذي استقبلنا على باب مكتبه مرحباً بنا، توجهنا الى طاولة الاجتماعات، الموجود عليها علبة كبيرة من الشوكولا البلجيكي، وبعد الجلوس حيث كان رئيس الأساقفة المطران دي كيزل جافاً قليلاً، فأردت كسر الجفاء، فقلت له: سيدنا هل تعلم أن من الفوائد الطبية للشوكولا هو زيادة الذكاء، فأنا انصح أن تقدموا للعريس قبل الزفاف قطعة من الشوكولا ليزداد ذكائه ويمتنع عن الزواج، فأنقلب المطران ضاحكاً بشدة، ثم هدأ وبادرني مبتسماً مرحباً بي ومن معي.
قدمت له السبحة من سماحته ونقلت له تحيات سماحته القلبية التي حمّلني اياها، نظر مطولاً السبحة وأخرجها فشرحت له كيف أن عدد حباتها هي على عدد أسماء الله الحسنى، وكيف أن المسلم في بلادي يستخدمها مرددا اسماء الله، ثم قدمت له رسالة التعزية باللغتين العربية والانكليزية.
قرأ النص الانكليزي بروية وكان يحرك رأسه بما يؤكد توافقه مع الرسالة، وبعدها نظر الي وقال: أؤكد لك، أن الرسالة لم تصلني أبداً، فقط وصلتني صورة بالبريد الالكتروني الذي أرسلته أنت.
ثم أراد أن يلفظ اسمي فشرحت له أن اسمي باسل هو اسم عربي بدلا من اسم باسيل نسبة الى القديس باسيليوس الكبير، أما كنيتي فقلت له: أنها صعبة اللفظ قليلا وتستطيع أن تخاطبني باسمي الاول، فابتسم وقال لي، إن هذه الرسالة تحمل من العمق في الرؤية والصدق في المشاعر ما يجعلني أقف احتراماً، إن ما حدث في مطار بروكسيل لا تقبله الأعراف ولا الأديان وأنا واثق أنه بعيد عن الاسلام ورسالة التعزية هذه تدل دلالة كبيرة على ذلك. ثم بادرني بالسؤال الذي أعرفه مسبقاً وهو بأنني مسيحي فكيف أكون مستشاراً لمرجعية إسلامية كبيرة، فأعدت على مسامعه نفس ما قلته منذ ساعات في بلدية بروكسيل.
سألني أيضاً إن كنت قد أتيت الى بلجيكا بعمل، فأكدت له أنني أتيت لأسلمه الرسالة التي تأخر تسليمها لأسباب عدة، فأعاد السؤال قائلاً: هل يعني ذلك أنك أتيت الى بروكسيل فقط لأجل الرسالة؟ فأجبته بنعم فقال ما معناه "إن المرجعية الاسلامية التي أرسلت الرسالة – ويقصد المفتي العام – هي محبة للسلام"، ثم تحدثت له عن حلب وعن سورية وعن وضع المسيحيين وعلاقتهم بالمسلمين، فقاطعني قائلاً أن مجيئك هنا وأنت مثلي، كاثوليكياً، يجعلني أفهم العلاقات الطيبة بينكم، ثم حدثته عن الهجرة المسيحية، فأبدى ألمه وحزنه وقال: كما أن الوجود المسيحي في لبنان هو رسالة وفق ما قاله قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، فإن الوجود المسيحي في المنطقة كلها ضروري لخلق مناخات حوارية بين أطياف المجتمع داخلياً من جهة وحوارات بين الدول خارجياً.
طلبت منه أن يعتبر المهاجرين المسيحيين والمسلمين من سورية، هم فئة واحدة، فأكد أنه سيقوم بالتوجيه الى كنائس بلجيكا بذلك، مع علمه التام أنها تعامل الجميع كأفراد انسانيين، وتشعب الحديث طويلاً وشرحت له عن الطوائف الاسلامية والمسيحية الموجودة على الأرض السورية، وصححت له الكثير من الأمور المغلوطة في نظرته الى الأحداث.
وبعد نقاش وشرح طويل أعطى رئيس الأساقفة كلمة التلفزيون شكر فيها سماحة المفتي العام وتمنى أن يعم السلام في سورية، وكرر أنه سيرفع الصلاة ويطلب ذلك من كل كنائس بلجيكا.
وعند توديعنا التفت الي وطلب مني ان نبقى على تواصل بين الإفتاء والمفتي العام في سورية وبين رئاسة أساقفة بلجيكا، من أجل منح ما تستطيع رئاسة أساقفة بلجيكا من تقديمه الى سورية.
وانتهى اللقاء .... وعدت الى سورية فأعلمت سماحة أخي الكبير مفتي سورية، كما كانت لي دردشات مع بعض أولي الأمر حول سفري.
اللهم اشهد أني بلغت