عكست تصريحات الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ في كل من جورجيا وتركيا حالة عدوانية معتادة من الحلف العسكري الذي تقوده واشنطن.
على الرغم من التصريحات المرنة أحيانا من جانب حلف الناتو، ومحاولات إيجاد نقاط تماس من جانب موسكو مع الحلف الذي بادر هو إلى تجميد العلاقات، أظهرت تصريحات الأمين العام ينس ستولتنبرغ خلال زيارته إلى جورجيا إصرارا غريبا على المضي قدما في تحدي مصالح القوى الدولية الكبرى من خارج الناتو، وعلى الإضرار عمليا بالأمن الأوروبي.
ستولتنبرغ، الذي زار جورجيا يومي 7 و8 سبتمبر/ أيلول الحالي، أعلن أن الحلف سيستمر في التوسع على الرغم من الممانعة من قبل روسيا.
وذهب إلى أن "روسيا كانت دائما تعارض عملية توسع الناتو... وروسيا كانت تعارض عضوية جمهورية الجبل الأسود (مونتنيغرو) في الحلف، لكن الناتو أثبت غير مرة، أن التوسع يستمر دائما، على الرغم من الممانعة، وليس لدى روسيا حق الفيتو". وأضاف بأنه لا يحق لأي دولة من غير أعضاء الحلف أن تتدخل في شؤون تكامل أي دولة أخرى مع الناتو.
جاء هذا التصريح على الرغم من أن روسيا ترى أن توسع حلف الناتو وخطواته لتعزيز حضوره في أوروبا الشرقية، واقتراب البنية التحتية العسكرية للحلف من الحدود الروسية وتكثيف التدريبات العسكرية في الفترة الأخيرة، تثير قلقا لدى موسكو، التي حذرت من عواقب تلك الخطوات واعتبرت أن من شأنها أن تخل بميزان القوى الاستراتيجي في المنطقة وتهدد أمن أوروبا.
في هذه الزيارة اصطحب ستولتنبرغ عددا من سفراء الدول الأعضاء في الناتو. وهذه هي الزيارة الثانية لستولتنبرغ إلى العاصمة الجورجية تبليسي بصفته أمينا عاما للناتو، حيث قام بزيارته الأولى في أغسطس/ آب 2015.
ما يعني أن هناك رسالة جدية يريد الأمين العام للناتو إبلاغها لقادة جورجيا، ولروسيا أيضا. ومن الواضح في تصريحاته نبرة "البلطجة" العسكرية والجيوسياسية بالنسبة لموسكو. لكنه من جهة أخرى أراد أيضا أن يطمئن جورجيا القلقة من إهمال الغرب، وتجاهل الولايات المتحدة.
ولكن يبدو أن الظروف الحالية في العالم، جعلت ستولتنبرغ يتذكر تبليسي التي يمكن استخدامها في مرحلة ما مقبلة.
الأمين العام للناتو أكد أن جورجيا أصبح لديها جميع الأدوات اللازمة استعدادا للانضمام لعضوية الحلف، وأن الحلف مستعد لدعمها في هذا الاتجاه.
وبشأن التقدم الذي أحرزته جورجيا، وبالذات فيما يتعلق بتنفيذ الإصلاحات الديمقراطية، قال "لقد تأسست لجنة الناتو – جورجيا في عام 2008، وهي منتدى للتعاون بين جورجيا والحلف. وستنظر اللجنة في مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك في موضوع أمن البحر الأسود والتطورات الأخيرة.
وسوف تنظر أيضا في التقدم الذي تم إحرازه بتنفيذ حزمة من الإجراءات، وعلى رأسها مبادرة جورجيا التي دخلت حيز التنفيذ في قمة ويلز عام 2014، وتم تعزيزها خلال قمة وارسو".
وللعلم، فقد بدأ التعاون العملي بين مؤسسات جورجيا وحلف الناتو منذ عام 1994، عندما أصبحت جورجيا عضواً في برنامج (الشراكة من أجل السلام).
وأصبح هذا التعاون أكثر كثافة بين جورجيا والحلف بعد قيام ما يسمى بـ "ثورة الورود" في عام 2004. بعد ذلك، وخلال قمة بوخارست التي عقدت في أبريل عام 2008 للدول الأعضاء في حلف الناتو، تم التأكيد على أن جورجيا قد تصبح عضوا في الناتو، إذا ما استوفت تيبليسي كافة المعايير المتعلقة بانضمامها إلى الحلف. أما خلال قمة الناتو التي عقدت في مدينة "ويلز" يومي 4 و5 سبتمبر/ أيلول 2014، فاتخذت مجموعة من الخطوات، وطُلب من جورجيا الالتزام بها في سياق سعيها للانضمام إلى حلف الناتو.
في إطار التطمينات والتصريحات والوعود، لم ينس ستولتنبرغ أن يذكر القيادة الجورجية "بأمن البحر الأسود والتطورات الأخيرة".
هذا التصريح يمثل عاملا مشتركا بين زيارته لجورجيا وزيارته لتركيا، العضو المهم في الحلف، ورأس حربته في الشرق الأوسط وفي البحر الأسود.. فقد أكد على "أهمية تركيا كحليف في الناتو، كونها قائدة في منطقة البحر الأسود، ومجاورة لمناطق الأزمات الراهنة كسوريا والعراق.. وأن بقاء تركيا دولة قوية وديمقراطية أساسي لاستقرار المنطقة.. وأن أي هجوم على الديمقراطية، في أي بلد كان، هو هجوم على الركيزة الأساسية لحلفنا".
هذا التصريح يحمل العديد من الرسائل التي تتأرجح بين التهديد والترغيب، وبين العصا والجزرة.
إذ أنه يلوِّح لأنقرة بورقة الديمقراطية وحقوق الإنسان في ظل الإجراءات القائمة بعد الانقلاب، وفي الوقت نفسه يغمز بإمكانية ليس فقط الموافقة على أدوارها في سوريا والعراق، بل وأيضا بإمكانية منحها أدوارا إضافية. ففي تصريحاته لقناة "إن تي في" التركية، قال "إننا ندعم جهود تركيا في محاربة تنظيم "داعش".. وضرورة تجهيز وتدريب القوات المحلية للعراق وأفغانستان وسوريا.
من المهم أن تكون القوات المحلية إلى جانب القوات التي يرسلها الناتو، قادرة على فرض النظام في بلادها ومحاربة الإرهاب، نحن نعمل على رفع درجة سلامة القوات المحلية في كل من العراق وأفغانستان وسوريا".
وبالتالي، يمكن أن ندرك ماذا يريد أن يقول ستولتنبرغ لأنقرة: "تركيا عضو في الحلف، وستظل عضوا، وستقوم بتنفيذ مواثيق الحلف والتزاماتها تجاهه مهما تعكرت الأجواء بينها وبين أي من دوله".
وإمعانا في التأكيد على ذلك، استبق ستولتنبرغ زيارته أنقرة وقال خلال مؤتمره الصحفي مع الرئيس الجورجي: "لقد قمنا بتعزيز وجودنا العسكري في تركيا، وعلى سبيل المثال، تراقب طائرات تابعة للناتو ومزودة بنظام أواكس المجال الجوي التركي، كما أوصلنا إلى تركيا منظومات إضافية للدفاع الصاروخي".
لكن المهم هنا، هو عبارة "قائدة في البحر الأسود".
وهي عبارة عن غزل سياسي وعسكري تتضمن شكلا من أشكال التوجيه في اتجاه محدد.
إذ أن هناك روسيا التي تقف على الشاطئ الآخر من البحر الأسود.
وللمصادفة الغريبة أن وزير الدفاع التركي، فكري إيشيق، بحث مع نظيره الأوكراني ستيبان بولتوراك الخميس 8 سبتمبر/ أيلول الحالي في لندن، آفاق التعاون بين الوزارتين.
وفي الوقت الذي دعا فيه وزير الدفاع الأوكراني نظيره التركي لزيارة أوكرانيا وللنظر هناك في السبل المحددة لمزيد من التعاون، أشار إيشيق من جانبه إلى أن آفاق العلاقات الأوكرانية التركية لها أهمية خاصة في مسألة الاستقرار في منطقة البحر الأسود.
والجدير بالذكر هنا أن وزير الدفاع الأوكراني، ستيبان بولتوراك، كان قد صرح في وقت سابق بأن أوكرانيا قد تنضم إلى المجموعة المشتركة لرومانيا وبلغاريا وتركيا في البحر الأسود، في حال إنشائها.
وإذا توقفنا قليلا، سنجد أيضا أن وزيري الدفاع الأمريكي آشتون كارتر والأوكراني ستيبان بولتوراك وقعا، في نفس يوم الخميس 8 سبتمبر/أيلول الحالي، وثيقة إطارية لتعزيز التعاون العسكري بين البلدين، وفقا لتصريحات البنتاغون التي أكدت على أن "الاتفاق الأمريكي الأوكراني سيساعد كييف في إجراء إصلاحات حيوية في المجال الدفاعي وتحسين إدارة مواردها وتعزيز التعاون في مجال التقنيات الدفاعية".
كل هذه التحركات من جانب الناتو والولايات المتحدة التي تقود الحلف عمليا، تؤكد تصريحات ستولتنبرغ التي يرى فيها أن الناتو سيتوسع رغم ممانعة روسيا دون أن يعبأ بالمخاطر والتهديدات التي تواجه الأمن الأوروبي ككل، وتستنفد الموارد المالية لدوله، وتعود بالعالم إلى الوراء في نسخة جديدة من حرب باردة.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع