هذه محاولة للنقد الذاتى. وهو سؤال يتردد بينى وبين نفسى قبل سؤال الآخرين بين الحين والآخر. وهى مراجعة لما قضيت فيه العمر، وخلاصة تجربة أرجو أن يستفيد المفكرون منها نقدا وإكمالا وليس رفضا بناء على أحكام مسبقة. هى مراجعة مثل «مراجعات» الإسلاميين فى مصر وتونس، لدى جماعة الجهاد وحزب النهضة. وهى محاولة للرد على اعتراضات كانت تثار باستمرار، تخرق أذنى، وتحزن قلبى: وهل يمكن الجمع بين النقيضين؟ وهل هناك ثلج مقلى؟ والحكم علىّ بأننى إسلامى متخف فى ثوب اليسار أو يسارى متخف فى ثوب الإسلام. وتصنيفى فى أجهزة الأمن بأننى إخوانى شيوعى أو شيوعى إخوانى. وفى نقاش مفتوح مع جماعة من المثقفين فى قصر الرئاسة مع الرئيس الإخوانى السابق سألنى: هل أنت شيوعى؟ قلت له: وماذا عن أبى ذر الغفارى؟ فأجاب أحد الحاضرين ساخرا من سؤال الرئيس بدلا عنه: شيوعى!
مازال اليسار يخيف الإسلاميين فكرا وسلوكا. فهو ملحد لا يؤمن بالله ولا بتطبيق الشريعة. ومازال الإسلام يخيف اليساريين. هو غيبيات لا شأن لها بالواقع؟ تاريخ خصام طويل بالرغم من نجاح الثورة الإسلامية فى بدايتها ضد الشاه وأمريكا، وبالرغم من دور الإسلام الثورى فى الجزائر وفى جنوب أفريقيا ضد الاستعمار الفرنسى والنظام العنصرى الأبيض، وغيرها من الأمثلة مثل «لاهوت التحرير» فى آسيا وأمريكا اللاتينية. يبدو أن الخلاف فى الصراع على السلطة تحت غطاء الأيديولوجيا. كلاهما سلفى لأنه يرفض الآخر. يريد أن يحكم بمفرده. هو الفرقة الناجية وكل الفرق الأخرى مثل اليسار والليبرالية والقومية فرق هالكة ضالة. ولا يذكر كل طرف إلا التاريخ الأسود للطرف الآخر، من قتل وعنف وضيق أفق ورفضه للآخر. فكلاهما سلفى.
والمشكلة فى المصطلحات وسياقاتها وليست فى المضمون. فالتيار الإسلامى يؤمن بالله والملائكة والجنة والنار ونعيم القبر وعذابه. ويدعو للحاكمية وهى معارضة للديمقراطية وحكم الشعب بالشعب. ويطالبون بتطبيق الحدود والكفارات: الصلب والرجم والجلد وقطع اليد. ووضع المرأة مازال الرق والسبايا والغنائم، نصف شاهدة ونصف وريثة. وتقع المسؤولية على الإسلاميين السلفيين الذين لم يروا فى الدين إلا هذا. ولم يروا المساواة والعدالة الاجتماعية وحق الفقراء فى أموال الأغنياء والحرية فى الضمير والجهر بالحق.
ولا يرى الإسلاميون فى اليسار إلا الإلحاد والمادية والصراع والعنف وسيل الدماء باسم الصراع الطبقى، والأنانية واللاأخلاقية والحريات التى تتجاوز حدود الأخلاق وكبت الحريات والسجن والمعتقلات للمخالفين فى الرأى. فالجوهر واحد وإن اختلفت المصطلحات. والموقف واحد وإن اختلف السياق. كل طرف لا يرى فى الآخر إلا الصفحة السوداء دون الصفحة البيضاء. وكل طرف لا يرى فى الآخر إلا السلب دون الإيجاب. كل طرف يرى نفسه ملاكا والآخر شيطانا. كل فريق يرى نفسه فى الجنة مجازا والآخر فى النار.
والحقيقة أن المضمون واحد. الإسلاميون يعبرون عن نفس المضمون، المساواة والعدالة الاجتماعية ومواجهة الظلم عن طريق الإلهيات المغتربة وفى أسلوب رمزى. واليساريون يعبرون عن نفس المضمون بالإنسانيات بعد أن قضوا على اغتراب الإلهيات وتجاوزوا الرمز إلى الدلالة المباشرة. ما يمنع الالتقاء بينهما إذن هو صورة كل منهما فى ذهن الآخر، الإسلاميون ضد الوطن والعلمانيون ضد الدين. وهى تصورات مفتعلة، الغاية منها لفظ الآخر. وماذا عن أبى ذر الغفارى الذى رفض التفاوت بين الأغنياء والفقراء اعتراضا على عثمان، وعمر بن العزيز الذى امتلأت خزائنه من أموال المسلمين وجعل المصباح موقدا فى حديثه مع عماله ثم أطفأه فى أحاديثه الخاصة، وجمال الدين الأفغانى الذى قال: «عجبت لك أيها الفلاح، تشق الأرض بفأسك ولا تشق قلب ظالمك»؟ وماذا عن أصول الإسلام الأولى «ليس منا من بات جوعان وجاره طاو»، «وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»؟ وماذا عن على شريعتى قبل الثورة الإسلامية فى إيران؟ هل هم إسلاميون أم يساريون؟ «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا»، هل هى إسلامية أم يسارية؟ إن الذى يؤجج الصراع بين الإخوة الأعداء، الإسلام واليسار، ربما سعى كل منهما على السلطة واعتبار الآخر غريما. ويؤجج رجال الدين مثل الكنيسة هذا الصراع دفاعا عن مصالحهم الشخصية ومساندتهم الحكام فى الصلة بين الدين والسياسة، بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، صراعا وتآلفا.
إن الدين بنية اجتماعية. يظهر فى المجتمع لتغيير البنية القبلية إلى بنية تقوم على المساواة والعدالة الاجتماعية. يهدف إلى تغيير أيديولوجية المجتمع. ويدخل فى أتون الصراع الاجتماعى. كما حدث فى تاريخ الإسلام الأول. فما الفرق بينه وبين اليسار؟ والدين به يمين ويسار، محافظة وتجدد. لا فرق بينه وبين وجود اليسار فى المجتمع. ولا تعارض بين اليسار بكل أطيافه وبين الإسلام. فالإسلام ليبرالى يدافع عن الحريات العامة، «لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»، القول الشهير لعمر بن الخطاب. والإسلام قومى لأنه ثقافة العرب شعرا وسياسة. وهو اشتراكى كما كتب المحدثون «الإسلام والاشتراكية»، «العدالة الاجتماعية فى الإسلام»، «الصراع بين الإسلام والرأسمالية». وقد وصلت ماركسية القرن العشرين إلى الاتفاق بين المسيحية والاشتراكية كما هو الحال فى «لاهوت التحرير» بأمريكا اللاتينية.
هكذا كانت الدعوات تتأقلم مع الثقافة الشعبية. والدين أحد عناصرها. فلا داعى للحزن أمام الدين الاجتماعى والدين الثورى. والله إنما هو إلا «مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ»، ورب الناس، إله السموات والأرض، رب السموات والأرض، «أَرَأَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ»، والأخ الذى لديه تسع وتسعون نعجة ويريد أن يأخذ نعجة أخيه الوحيدة هو نموذج الاستغلال. والمجتمع الذى به أخ لديه نعجة واحدة ويريد أن يأخذ بعض نعاج أخيه هو نموذج مجتمع المشاركة.
وربما لم ينجح اليسار الإسلامى كتنظيم حزبى لأنه ليس وراءه جماعة حزبية. واكتفى بالطرح النظرى. ربما لأنه ابتعد عن السلطة والحكم. فمازالت الفكرة محاصرة بين اليمين الدينى واليسار العلمانى. إن تكوين جماعة حزبية فى حاجة إلى قوى تنظيمية هائلة وتمويل ضخم. وكان اليسار الإسلامى مجرد طرح نتيجة الخصام الأيديولوجى والصراع السياسى فى الوطن العربى.
هذا فى الظاهر، عدم نجاح اليسار الإسلامى على المستوى العملى. ومع ذلك فقد لامسته الأحزاب الإسلامية التقدمية فى المغرب وتونس وتركيا وماليزيا وإندونيسيا، ونشأت جماعة 15/21 فى تونس جناحا يساريا فى حزب النهضة. ومازالت ترد خطابات عن الرغبة فى تكوين حزب شيوعى إسلامى أو إسلامى شيوعى. وهو موجود فى قلوب الناس. ويعبر عن رغبة الجماهير. ربما يحتاج الأمر إلى مزيد من الزمن حتى يتحول اليسار الإسلامى إلى حركة اجتماعية تؤثر فى مسار التاريخ.
نقلا عن المصري اليوم