■ عندما تنص الدساتير المتعاقبة منذ بداية الخمسينيات.. وحتى الدستور القائم بالمادة 155، على حق رئيس الجمهورية فى العفو عن باقى العقوبة للمحكوم عليهم، ويستخدم رئيس الجمهورية هذا الحق الدستورى بعد أخذ رأى مجلس الوزراء، فيصدر ثلاثة قرارات بالعفو فى أقل من خمسة أشهر، ليؤكد الحكمة من الترخيص الدستورى بإصدار قرارات العفو، لاعتبارات إنسانية واجتماعية رعاية للمحكوم عليهم وذويهم، ويضع شروطاً موضوعية للعفو عن باقى العقوبة المحكوم بها، تحقيقاً للغاية الدستورية وحكمة القرار الصادر بالعفو.
■ وعندما يصدر رئيس الجمهورية قرارات العفو للإفراج عن المسجونين بمناسبات وطنية وأعياد قومية بلغ عددها ثلاثة قرارات جمهورية منذ أعياد سيناء بتاريخ 25 إبريل الماضى بالقرار رقم 2016/126 بتاريخ 23 مارس 2016 وعيد الفطر المبارك بالقرار رقم 2016/311 بتاريخ 4 يوليو 2016، ثم عيد الأضحى وأعياد أكتوبر بالقرار رقم 2016/416 بتاريخ 2016/9/7، أى ثلاثة قرارات متتالية خلال خمسة أشهر التزاماً بالدستور وتأكيداً لرعاية المحكوم عليهم وذويهم، وما يحققه كذلك من مردود أمنى وآثار نفسية واجتماعية، ورفع المعاناة المادية والمعنوية عن كاهل ذويهم.. وهو ما أشارت إليه المذكرة الإيضاحية للقرارات الرئاسية الصادرة بالعفو صراحة.
■ وعندما تعلن وزارة الداخلية أن اللجنة المشكلة لبحث من ينطبق عليهم شروط العفو عن باقى العقوبة، تنفيذاً لقرارات رئيس الجمهورية فى كل مناسبة، أنه قد تم الإفراج بالفعل وقد بلغ عددهم خلال تلك المناسبات من إبريل وحتى سبتمبر 1750 سجيناً، استقبلهم ذووهم بالفرح والأمل ويبدأ المفرج عنهم بعدها حياتهم فى المجتمع وبين المواطنين.. بالحياة.. والعمل، وقد تلقوا الدرس.. مهما كان اعتقاد البعض منهم، أن ما حدث كان ظلماً أو محنة أو ابتلاءً واختباراً!!
■ ومع أن تلك القرارات الرئاسية وفقاً لما تؤكده الأحكام القضائية، أنها إسقاط للعقوبة كلها أو بعضها، فإن المشكلة الكبرى والقضية الأهم، عندما يُفرج عن البعض.. ولا يفرج عن آخرين من مستحقى العفو ومستوفى الشروط، فقضاء نصف المدة المحكوم بها أمر ضرورى ولا يقع بشأنه الجدل، وأن تكون الجريمة المعاقب عليها من الجرائم التى يجوز العفو عنها دون غيرها وهو أمر واضح ومحدد لا يقبل خلافاً، وأن يكون المحكوم عليه حسن السلوك وألا يخشى منه على الأمن العام.. عندها لا يجوز لأى إنسان مهما كان حرمان المحكوم عليه من حقه فى العفو.
■ وتؤكد لنا القواعد الدستورية والقانونية على تكافؤ الفرص.. والمساواة بين المواطنين من المحكوم عليهم أو غيرهم.. ومن المبادئ الدستورية والقانونية أيضاً أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وأن الانحراف بالسلطة يوجب الرد على صاحبها، ويرتب المسؤولية ويوجب الحبس والعزل، لأنه امتناع عن أمر واجب تنفيذه بحكم القانون.
■ وقرار السلطة أو اللجنة المعنية بالعفو يخضع لرقابة قضاء المشروعية.. وامتناع السلطة عن إصدار قرارها بالعفو يجب أن يستند إلى ما يبرره، وأن يكون المبرر مقبولاً وثابتاً فى الأوراق وله أصول، وقولها لا يمكن أن يؤخذ به على عواعنه مطلقاً!! لأن الشروط التى تضمنتها قرارات العفو لا تقبل جدلاً.. فقضاء نصف المدة يقع فى لغة الحساب بالأرقام، كما أن اعتبار الجريمة مما يجب بشأنها العفو معلوم، ولا يقبل تفسيراً، وحسن سلوك المحكوم عليه، يتضح من حالة المحكوم عليه أثناء حبسه، أما الخطورة على الأمن العام فالقول لا يصح أن يكون مرسلاً بغير دليل ثابت بالأوراق، ويجب أن يستند إلى أسباب تبرره وأن تكون هذه الأسباب حقيقة وليست خيالاً أو وهماً أو حيلة!!
■ ولا شك أن العفو عن باقى العقوبة أو إسقاطها وفقاً لقرارات جمهورية التزاماً بالحق الدستورى، أقوى وأعظم من الإفراج الشرطى.. ولا يترك للجهة المسؤولة أو اللجان المعنية سلطة تقديرية.. لأنها مقيدة بالشروط الموضوعية التى أتى بها القرار، وخطورة الامتناع عن العفو، أسوة بباقى الذين أفرج عنهم وتنفسوا الحياة وفقاً لقرار العفو، كثرة الشائعات والتكهنات وتداول الأقاويل والروايات وتعطى الفرصة لأصحاب المصالح وذوى النفوس الضعيفة للابتزاز أو الانتقام، وسد كل هذه الثغرات يجب أن يكون واضحاً من الجهة التى عهد إليها تنفيذ العفو.. وهى اللجنة التى شكلها قرار رئيس الجمهورية برئاسة مساعد وزير الداخلية لقطاع السجون التى لا تملك إلا العفو متى استوفى المحكوم عليه شروط العفو وهى شروط واضحة لا تقبل التأويل أو الانحراف أو التستر وراء الحيل أو الذرائع!! ومن حق الرأى العام.. والمحكوم عليه أيضاً معرفة السبب!!
■ وتبقى المشكلة هل يستمر الحال على ما هو عليه، فنترك لكل جهة مسؤولة ممارسة سلطتها، لتفعل ما تشاء بغير رقيب أو حسيب؟! وحتى مع صدور قرارات رئاسية بالعفو لتفعل ما تشاء فى العفو أو عدم العفو، واستمرار الاحتجاز القسرى، رغم توافر شروط الإفراج، ولدينا جهات متعددة مسؤولة عن مراقبة كيفية تنفيذ القرارات، ولدينا أيضاً جهات عديدة يمكن أن تقوم بهذه الرقابة، وهى رقابة فى صالح اللجنة حتى تطمئن إلى سلامة قراراتها، وتدرأ الشائعات، وأيضاً فى صالح دولة سيادة القانون.. التى يؤكد عليها الدستور فى كل مناسبة تأكيداً لتكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين، إذ لم يعد أحد فوق المساءلة، وإن تأخر الزمن، وشواهد الواقع خير دليل، فالكل أمام القانون سواء.. اللجنة أو ما فوقها، والمواطنون جميعاً سواء، من يملك منهم حريته أو غير ذلك، ويتكرر السؤال لماذا لم يفرج عن باقى المستحقين للعفو رغم استيفائهم للشروط؟! ومازال بعضهم خلف الأسوار، يعانى البعض منهم المرض والاضطرابات النفسية، وتعانى الأم.. والأخوات والأولاد آلاماً لا تقاوم، ويعيش الجميع مأساة حقيقية.. تمتلئ بالظلم والقهر.. وعدم المساواة، ولم يعد أمامنا إلا الالتزام بسيادة القانون والمساواة وتكافؤ الفرص والإفراج.. وقبل ذلك كله الرحمة والعدل.. ليظل العدل دوماً أساس الملك!!
نقلا عن المصري اليوم