"تسلل إلى حجرته وأغلق بابها. ثم ارتمى على أقرب كرسى التقاه. لم يكُن يدرى ماذا يمكنه أن يفعل، فقد استبدت به مشاعر الحيرة ! كانت المواقف تمر أمام عينيه، وأصداؤها تتردد داخل عقله، محْدثة دَوِيًّا وجَلَبة شديدة. لم يكُن يهتم بكل تلك العواصف التى تجتاحه اجتياحًا. لم يكُن يهتم بشيء سوى تلك المشاعر التى كانت تسيطر على ذاته كما يسيطر النَّوء على السفينة فيُمِيلها حيث يشاء. تنهد، وقال: يا ليتنى ما فعلت ذٰلك! كيف لم أدرك.. كيف لم أُدرك؟ وفرَّت دمعات من عينيه دون إرادته! ومر قطار العمر يحمل ما تبقى له من ذكريات !".
تجتاز بعابرى طريق الحياة كثير من المشاعر التى تقدم لهم السعادة، أو تنطوى على آلام. إلا أن أصعب تلك المشاعر وأعمقها وأشدها تأثيرًا هى مشاعر "الندم". وقد قيل عن الندم أنه: "العقل الذى يحضَُر متأخرًا". وتعتصر مشاعر الندم الإنسان بشدة وقسوة، وتنزِع منه السعادة والفرح إذا ما تملكت على حياته؛ فكما يقولون: " أقسى ما يمر بنا أن نفهم الأشياء فى موقت متأخر جدًا!". وتعتمل فى الإنسان تلك المشاعر عندما يشعر بأنه أخطأ التصرف فى موضوع ما، وتزداد حدة الندم كلما ازدادت أهمية ذٰلك الموضوع لديه. والإفراط فى تلك المشاعر يمكنه أن يحطم حياة الإنسان ويقضى عليها. ولٰكننا نقف أمام تساؤل: أهناك ندم جيد أو مرغوب ؟
نعم، إن الندم الذى يمر بحياة إنسان بسبب ما ارتكب من خطايا وذُنوب هو خير حين يقود إلى التوبة وطلب مراحم الله، وحين يكون دافعًا له لتغيير اتجاهه. ومع التوبة، تُفتح أبواب الرجاء للإنسان فتُنتزع منه كل مشاعر إحباط ويأس وندم، إذ يبدأ خُطواته نحو الطريق المؤدية إلى الحياة. أيضًا الندم الذى يجعل الإنسان يتراجع عن مواقف وسُلوكيات غير حكيمة وبعيدة عن الخير هى مشاعر جيدة، مثل أن يكتشف الإنسان خطأً ارتكبه فى حكمه على آخرين فيندم، ولٰكنه لا يتوقف عند مشاعر الندم ويجعلها تدمر حياته، بل يتخذ المواقف والقرارات المناسبة لتعديل خطئه. وهنا أتذكر قصة لشخص دُعى "بطرس" العشار إذ عُرف بمحبته الشديدة للمال وقساوته الشديدة وعدم رحمته، حتى إن المحتاجين كانوا يبتعدون عن طريقه! وفى ذات يوم، التقاه أحد الفقراء وطلب إليه أن يمنحه شيئًا، فانتهره "بطرس" وحاول طرده!! ولٰكن الرجل لم يتركه وأخذ يُلح عليه بشدة أن يحنو عليه بشىء!! ومع ذٰلك الإصرار، أخذ "بطرس" كِسرة من خبز حمله إليه غلامه، وضربه بها على رأس الفقير على سبيل الإهانة لا الرحمة!!! أخذ الرجل كِسرة الخبز فرِحًا منطلقًا بعيدًا. ولٰكن لم يمر الليل هادئًا مثل كل ليلة، بل... بل للحديث بقية...!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى.
نقلا عن اليوم السابع