لم يكن حادث رشيد عابراً، لم يفاجئنا، ولم يصدمنا، كان حدثاً عادياً، موت 165 شخصاً تم انتشال جثثهم حتى الآن لم يعن لنا شيئاً. لقد أصبح الموت فى عرض البحر عادة طبيعية بالنسبة لنا، هل تبلّدت مشاعرنا؟ هل أصبحنا شعباً يجيد فن التعامل مع الموت، أم أن لغة عدم الاكتراث أصبحت جزءاً من ثقافتنا؟!
فى الرابعة من عصر الثلاثاء الماضى 20 سبتمبر تسلل المئات إلى مركب كان يقف فى عرض البحر، حشروهم حشراً، شباب فى عمر الزهور، نساء وأطفال، دفعوا كل ما فى جعبتهم لسماسرة بلا ضمير، وذهبوا يبحثون عن حلم الهجرة والثروة ولقمة العيش النظيفة!!
ظلت السفينة تجوب بالقرب من الشاطئ لأكثر من ثمانى ساعات، لم يقل أحد ماذا يحدث، لم يقدموا تفسيراً مقنعاً، ظل الناس حيارى، تتقاذفهم مياه البحر فى ظلمة الليل الحزين، وفجأة فى الثانية عشرة مساء كان هناك مركب آخر يقترب منهم، على بعد 12 كيلومتراً من الشاطئ!!
كانت الخطة تقضى بنقل المصريين من السفينة التى تقلهم إلى هذه السفينة المقبلة من مكان مجهول، والتى تقل على متنها عشرات الأجانب الذين ينتمون لجنسيات أخرى غير مصرية. كانت حمولة هذه السفينة كبيرة لا تتسع لآخرين، لكن سماسرة الموت أصروا على نقل المهاجرين المصريين إلى متنها. دخل المصريون والأجانب فى مشاجرات عنيفة فى عرض البحر، استمرت المشادات والصراعات لفترة من الوقت، نجح المصريون فى نهايتها فى استقلال السفينة التى تقل الأجانب ليصبح عدد الأشخاص فيها نحو 250 شخصاً.
رفضوا الاستماع إلى تحذيرات الأجانب، أصروا رغم إدراكهم خطورة ما يجرى، لم يكن يفرق معهم الموت من الحياة، كانوا فقط تواقين إلى الحلم. بدأ المركب يبحر باتجاه إيطاليا، وفى الخامسة من فجر الأربعاء مالت السفينة إلى أسفل، لم يصدق الركاب ما يحدث أمام أعينهم، تدفقت المياه بسرعة إلى جوف المركب، سادت حالة من الصدمة والارتباك، لم يصدق الركاب ما يجرى أمام أعينهم. ومع بدايات الغرق، ألقى الركاب بأنفسهم فى عرض البحر، لم تكن هناك وسائل إنقاذ كافية، ولم يكن هناك وقت للبحث عنها، فى دقائق معدودة أصبحنا أمام مشهد الموت العظيم!!
ظل الناس يصرخون بحثاً عن منقذ، لم تكن هناك فرصة للوداع الأخير، غاص الكثيرون منهم فى قاع البحر منذ اللحظات الأولى، أسر بأكملها لفظت أنفاسها، وطويت صفحتها. الصرخات تدوى فى عرض البحر، استغاثة تصل إلى حرس الحدود، تتحرك القوات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
«مركب رشيد» هذا هو الاسم الذى أطلق على مركب الموت، رشيد المدينة الهادئة، التى تقع ما بين النهر والبحر، أصبحت محط أنظار العالم فى ساعات قليلة، هنا أمام برج رشيد، كان الفصل الدرامى الأخير فى المأساة يغلق صفحاته.
الجثث متناثرة فى كل مكان، عدّ يا عدّاد: 10، 20، 50، 100، 165، نعم مائة وخمس وستون جثة حتى كتابة هذا المقال، وماذا يعنى الـ165 جثماناً؟!
بعد ست وتسعين ساعة من وقوع الحادث تحركت الحكومة، أدركت أن هناك بشراً قد ماتوا، وأن هناك كارثة قد وقعت، وأن هناك مئات الأسر تحتشد أمام الشواطئ فى انتظار أبنائها، أحياء أو أمواتاً، كل حلمهم الآن هو العثور على الجثمان.
يقف محمد أبوعامر أمام الشاطئ، عينان زائغتان، وجسد متعب ينتحى جانباً وسط الحشود، يهذى بكلمات حزينة: «أولادى الأربعة ماتوا، جثثهم لم تخرج بعد، حد يطمنى يا اولاد!!».
سيدة فى منتصف العمر تهيم على وجهها، تصرخ: «فينك يا أحمد، مستنياك يا ولدى، ولادك بيسألوا عليك، إوعى تسيبهم وتسيبنى، ماليش غيرك فى الدنيا»!!
كثيرة هى المآسى التى دوّت صرخات أصحابها فى عنان السماء، ولكن لا مجيب. الرئيس خارج البلاد، والحكومة لم تكلف نفسها إعلان الطوارئ لمواجهة الكارثة، لم تفكر فى انتشال المركب الغارق بالقرب من الشواطئ للعثور على عشرات الجثث التى لا تزال ترقد فى قاع البحر.
بالأمس عقد الرئيس اجتماعاً هاماً بحضور رئيس الوزراء ووزير الداخلية ورئيس المخابرات العامة ورئيس الرقابة الإدارية. كان الرئيس غاضباً، طالب الأجهزة المعنية بالملاحقة القانونية للمتسببين فى الحادث، وجّه بتشكيل لجنة عمل فورية لمواجهة الموقف بالنسبة لإجراءات الإحكام على المنافذ والشواطئ، وسرعة الانتهاء من إقرار قانون مكافحة الهجرة غير الشرعية، وتفعيل إجراءات تسويق مبادرة تمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر للقضاء على بطالة الشباب!!
الكلام جميل ورائع، ولكن المهم التنفيذ. دعونا نتحدث بصراحة، فالفساد أصبح ثقافة فى هذا البلد، والتسيب والإهمال أمر طبيعى، طالما ظلت القوانين قاصرة، والعقاب غير وارد للمقصرين والمتواطئين.
الحدث ليس جديداً، هناك أحداث سابقة، وكوارث متعددة، وفى كل مرة كنا نصدر التعليمات، ونحذر، ونندد، ونتوعد، ولكن ما هى إلا أيام قليلة حتى ننسى كل شىء، ونطوى الصفحات ونعود من جديد فى انتظار كارثة أخرى!!
هؤلاء الذين تسببوا فى موت الآلاف، ألا يستحقون الإعدام، ليكونوا عظة وعبرة؟ والله لو فعلناها مرة واحدة لانتهى الأمر إلى غير رجعة، ولكن المصيبة الكبرى أن القانون لا يزال يوصّف هذه الجريمة بأنها جنحة، يعاقب مرتكبوها بالحبس لما لا يزيد على ثلاث سنوات، يا بلاش!!
إن الأزمات فى الوطن تتفاقم، والفساد يتعاظم، والتواطؤ من قبَل مسئولين فى الجهات التنفيذية يتمادى، لا يوجد عقاب حقيقى للمذنبين فى هذا البلد، لا أعرف لماذا التردد فى الحسم؟! هل أصبح أهل الحكم محايدين، يكتفون فقط بنصوص قانونية بالية، دون الإقدام على اتخاذ إجراءات من شأنها الردع والحسم، بحيث لا تتكرر الجريمة مرة أخرى؟!
وهكذا الحال فى كثير من الأوضاع التى تعيشها البلاد، والتى تؤدى فى النهاية إلى التراجع والميوعة فى تطبيق القانون، ومناصرة الحق، وحسم الأمور فى بلد خارج لتوه من تجربة فوضوية، لا تزال آثارها باقية.
وإذا استمر الحال هكذا، فسوف يفقد الناس الأمل فى تطبيق القانون بشكل حاسم يمكّن السلطة التنفيذية من إعادة الانضباط إلى الشارع مرة أخرى، حتى يشعر المواطن بالأمن والأمان، ويتوقف العبث بمصير البشر والأوطان!!
بقى القول أخيراً: العقاب وحده لن يكون رادعاً، ما لم نزرع الأمل فى النفوس، ونعطى الشباب إحساساً بأن القادم أفضل، ونبحث معاً عن وسيلة لإطعام الأفواه الجائعة، دون انتظار لثمرة مشروعات لن تأتى نتائجها سريعاً.
من هنا تكون البداية، العدالة فى الحسم، وتطبيق القانون، وزرع الأمل مجدداً فى النفوس!!
نقلا عن الوطن