مرَّت دول العالم المختلفة التى قطعت شوطاً على طريق الديمقراطية والحرية، والتى حققت قفزات نوعية فى مجالات الحياة المختلفة، مرت بمرحلة تحول أو مرحلة انتقالية عبرت فيها من السلطوية والديكتاتورية إلى الديمقراطية، ومن التخلف إلى التقدم، وكان العنصر الأهم والأبرز الذى ميز تجارب الشعوب والدول وحدد ثمن التحول ومداه الزمنى هو مدى امتلاك النظام القائم لرؤية واضحة ومحددة، وتحليه بالشجاعة الكافية للعبور نحو المستقبل. من امتلك هذه الرؤية دفع ثمناً أقل وأحدث عملية التحول والانتقال فى وقت معقول كان السير فيه باتجاه واحد، عكس حال النظم التى افتقدت الرؤية والشجاعة الكافية، حيث كان الثمن باهظاً، وكان السير على طريقة «خطوة للأمام وخطوتان للخلف».
امتلاك الرؤية الشاملة بعيدة المدى هو أول خطوة على طريق التحول باتجاه الديمقراطية والتقدم، وأول مكونات هذه الرؤية هو الفصل بين السياسة والدين، فالأولى متلونة متغيرة ومراوغة وقديماً قال الفلاسفة إنها ليست مجال عمل الرجل الفاضل، تستند إلى منطق «الغاية تبرر الوسيلة»، والسياسى الماهر هو من يجيد تلقى دروس مكيافيللى التى صاغها فى كتابه الأشهر «الأمير» الذى يقدم فيه نصائحه للحاكم كيف يكون مراوغاً، مناوراً ومخادعاً أيضاً، أما الدين فهو مقدس فى نفوس معتنقيه يحض على الفضائل والقيم النبيلة، اختلاطهما معاً يؤدى إلى إنتاج خلطة تجمع صفات الاثنين معاً، تضيف السياسة فيه من صفاتها إلى الدين على نحو يضر بالأخير ضرراً شديداً، خلطة تنتهى إلى الإساءة للدين والإضرار بالسياسة أيضاً. وتكشف تجارب التحول فى شتى قارات العالم مع تنوع الثقافات والأديان والمعتقدات، أنه لا تحول دون وضع الخطوط الفاصلة بين الدين والسياسة، للأول خصوصيته وقدسيته، فهو قائم على الفردية والشخصية، علاقة بين الرب والعبد لا دخل للدولة بها، والثانية تستند إلى ضرورات الواقع المتغير والمتلون.
اختبرنا فى مصر خلط الدين بالسياسة منذ عام ١٩٥٢ ووصلنا إلى الذروة فى عهد السادات إلى نهاية عهد مبارك، فكان السير خطوة للأمام وخطوتين للخلف، وجاء زمن الجماعة وكان الخلط شديداً، ومن ثم كان الثمن باهظاً حتى بالنسبة للدين الذى تعرض للاهتزاز فى نفوس شباب مصرى وظهرت على السطح ظواهر الغش والخداع باسم الدين، فكان منطقياً أن يخرج علينا مَن يعلن عدم إيمانه بالدين كما يقدمه البعض من رجاله.
جاءت ثورة الثلاثين من يونيو تطالب بدولة مدنية حديثة تستند إلى القيم الإنسانية، إلى المواطنة والمساواة وعدم التمييز، إلى فصل الدين عن السياسة، وطالب الرئيس عبدالفتاح السيسى بإصلاح الخطاب الدينى، وبدا أن بلادنا تسير باتجاه امتلاك الرؤية اللازمة لتحقيق عملية التحول العصىّ فى منطقتنا وثقافتنا، ولكن سرعان ما بدا واضحاً أن الرؤية اللازمة غائبة بالفعل، وما يحدث أن مجتمعنا يسير خطوة للأمام ثم يرتد خطوتين إلى الخلف. خذ على سبيل المثال قرار رئيس الوزراء بضم الدكتور عباس شومان، صاحب فتوى أن «مرسى» ولى أمر وتجب علينا طاعته فيما يتخذ من قرارات، إلى لجنة تطوير التعليم، وتقدم حزب النور السلفى برؤيته لتطوير التعليم على طريقة «برهامى والشحات»، واكتمل المشهد بقرار وزارة التربية والتعليم بإرسال بعثة إلى باكستان لدراسة تجربتها فى تطوير التعليم، نتعلم من باكستان التى أنتجت مناهجها حركة «طالبان». أكثر من ذلك تصدر المحكمة الإدارية العليا حكماً يحظر الإضراب ويعاقب كل مَن يضرب عن العمل بالفصل من الوظيفة، مؤكدة أن الإضراب مخالف للشريعة الإسلامية، ما علاقة الشريعة بالإضراب عن العمل؟ لا ندرى، فالإضراب مهما كان موقفنا منه حق أصيل من حقوق العامل والموظف، قد ترد عليه بعض القيود والضوابط، لكنه أبداً لا يمكن تجريمه، ناهيك عن وصفه بالمخالف للشريعة. وفى نفس الأسبوع خرجت علينا وزارة المالية بالقول إنها سوف تصدر صكوكاً إسلامية، ويعلم دارسو الاقتصاد أن رأس المال لا دين له، وأنه لا يمكن تديين الوسائط المالية، وأن القضية برمتها هى دغدغة لمشاعر بسطاء المصريين. السؤال هنا: لماذا هذا التوجه نحو تديين المجال العام فى وقت تتطلب فيه عملية التحول التى تمر بها البلاد الفصل ما بين الدينى والسياسى؟ لمصلحة مَن يتم ذلك فى وقت يسعى فيه رئيس الجمهورية إلى امتلاك رؤية واضحة نحو المستقبل، وكل ما يجرى على الأرض يعرقل الوصول إلى هذه الرؤية ومن ثم يطيل من عملية التحول ويرفع ثمنها. مشكلة الإغراق فى تديين المجال العام أنه يضرب الرؤية ويعيدها إلى المربع الأول وإلى السجال حول الغيبيّات وهو أمر لن تصبر عليه الأجيال الجديدة طويلاً، ويمكن أن ترد عليه بالهجرة من الوطن مادياً، والأخطر ثقافياً وروحياً أيضاً.
نقلا عن الوطن