فى مشهد درامى قاسٍ ومتكرر بصورة متزايدة، منذ انفجار المنطقة العربية قبل خمس سنوات؛ حيث شهدت بعض مناطقها تدهوراً فى الأوضاع الأمنية، سهل معها اختراق حدودها والعبور منها إلى عرض البحر؛ أصبحت ظاهرة غرق سفن المهاجرين السريين أو ما يعرف بـ«قوارب الموت» تشكل عبئاً على ضمير العالم وما تبقى فيه من إنسانية.
ملف الهجرة السرية لا يكاد يُنسى قليلاً حتى يعاود البزوغ مع كل حادثة تهز مشاعر الملايين عبر العالم، فمنذ 2014 سُجلت سلسلة من حوادث الغرق التى أوقعت 10 آلاف شخص فى المتوسط، حسب إحصائيات أوروبية وأممية، فيما تمكن أكثر من 300 ألف شخص من عبور البحر، فى العام الحالى فقط، مما يدفع الكثيرين إلى المجازفة بأرواحهم فى سبيل الوصول إلى الضفة الأخرى، أملاً فى الحياة، بكل مصاعبها فى دول المهجر، بدل الموت البطىء فى دول الأصل.
وحادث غرق المركب بساحل مدينة رشيد الذى راح ضحيته أكثر من 204 ضحايا؛ من أصل 450 مهاجراً من جنسيات مختلفة؛ رغم قساوته لن يكون الأخير، فملف الهجرة السرية معقد ومتشابك ويحتاج إلى مقاربة شاملة تنخرط فيها دول الجنوب ودول الشمال، أما غرق مركب رشيد فسيشكل فقط فرصة لإعادة فتح ملف الهجرة غير الشرعية فى مصر، وربما لسن بعض القوانين على ضوء ما تشير إليه المعطيات من ارتفاع وتيرة هذه الهجرة بعد ثورة 25 يناير، حيث تم إحباط تهريب أكثر من 5 آلاف مهاجر فى 2016، وضبط نحو 150 سمساراً يعملون فى هذا المجال، فيما تبقى العقوبات ضعيفة إذا ما علمنا أنها لا تتجاوز سنة سجن للمهرب، فيما يتم اعتبار الشاب الذى يحاول السفر بطريقة غير شرعية «ضحية».
إن الشباب الهارب من جحيم الفقر والبطالة، أو جحيم الحرب فى سوريا وليبيا، هم، أولاً، ضحايا حكوماتهم التى لم توفر لهم ما يحفظ كرامتهم بعدما أرغمتهم الظروف القاسية وشح الموارد على الهجرة بحثاً عن الحياة أو الموت فى سبيلها، وهم ضحايا سياسات دولية وتجاذبات إقليمية دفعت بعائلات بأكملها إلى الهروب من ماكينة الموت والدمار إلى أحضان البحر، وهم أيضاً ضحايا سماسرة الموت الذين انعدمت فى قلوبهم الإنسانية، فلم يعد يهمهم ارتفاع حمولة المراكب وما يشكله ذلك من تهديد، بقدر ما يهمهم امتلاء أرصدتهم.
نحن أمام واقع مؤلم ومخجل على الجميع أن يتحمل فيه المسئولية، أمام استمرار ضجيج الحرب وغياب الأمن والمراقبة فى دول العبور مع تردى الأوضاع الاقتصادية فى دول المنطقة، فإذا كانت دول المنبع لم توفر العمل والاستقرار والحياة الكريمة لمواطنيها، فإن أوروبا، التى طالما استغلت خيرات القارة السمراء واستنزفت ثرواتها لتنمى اقتصادها، على حساب مستقبل قارة، لم تقدم حلولاً لاستقبال المهاجرين، بل ساهمت وتساهم فى تفاقم أوضاعهم عندما تركتهم، مرة، يغرقون أمام أعينها على سواحلها، بل واكتفت بالفرجة حماية لاقتصادها ومجتمعاتها، وتركت هؤلاء البسطاء يواجهون قدرهم فى غياهب البحر الذى اختار أن يبتلع أجسادهم ويقتل أحلامهم الصغيرة، ومرة أخرى، حينما فرضت اتفاقياتها مع دول العبور احتجاز المهاجرين ومنعهم من عبور البحر، لتتفاقم أزماتهم، وبدل أن تطأ أقدامهم أرض الأحلام أصبحوا عرضة للتشرد والتسول والحياة المهينة.
العالم يعيش أزمة ضمير وأزمة إنسانية، الشباب يهرب من الفقر فى مصر والمغرب، والعائلات تهرب من الجحيم فى تونس وسوريا، التى تدفع بعشرات الآلاف سنوياً نحو ليبيا للانتقال نحو شواطئ إيطاليا واليونان، وليبيا لم يجد أبناؤها سوى البحر منقذاً من الخراب الذى عم الأرض، فى الوقت الذى لم يجد فيه الأفارقة المقيمون فيها منذ سنوات خياراً سوى المغادرة نحو الشواطئ الإيطالية بدل العودة إلى بلدانهم، فيما تعوّد مهاجرو جنوب الصحراء على هذه الرحلة المريرة.
أما أوروبا التى تتغنى بحقوق الإنسان، ولا تكاد تخلو مناسبة دون أن تلعب بهذه الورقة، إما من أجل الضغط أو من أجل التدخل فى شئوننا، فهى تتفرج على الموت على سواحلها بصمت، بل وتواجه وتردع المهاجرين إليها بجثت مهاجرين آخرين، فيما يكتفى مسئولوها بالدعوة إلى اجتماعات وقمم أوروبية لم ولن تخرج بأى حل للأزمة.
الدول المصدرة للهجرة فشلت فى منع مواطنيها من الهروب خارجاً بحثاً عن حياة أفضل، وأوروبا فقدت مصداقيتها فى التعاطى مع ملف المهاجرين ومآسى قوارب الموت بعدما سجلت فى أكثر من حادثة امتناعها عن تقديم المساعدة، وأبناء المنطقة العربية ومهاجرو أفريقيا لا يزالون يخوضون لعبة الموت ويؤمنون، بجهالة، أن أوروبا هى «الحل».
ولا حل إلا بتدارك أزماتنا الداخلية واستعادة الأمن المفقود فى المنطقة، وحدوث صحوة أفريقية بأن خيرات القارة يجب أن تستغل وتستثمر لمصلحة شبابها، أفريقيا غنية بثرواتها المتعددة، التى يستغلها الغرب على حين غفلة من شعوبها، وقد حان الوقت للاعتناء بهذه الثروات واستغلالها بما يوفر فرص عمل تضمن حياة كريمة وتحمى أبناءها من الموت غرقاً فى سبيل «الوهم».
نقلا عن الوطن