الأقباط متحدون - أسئلة «الحقيقة»!
أخر تحديث ٠٨:٥٦ | الاثنين ٣ اكتوبر ٢٠١٦ | توت ١٧٣٣ش ٢٣ | العدد ٤٠٧١ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

أسئلة «الحقيقة»!

مصطفى حجازي
مصطفى حجازي

جلسوا جميعاً وعلى سَمتِهم وَقَارُ مصطنع.. ويعلو وجوهم تَجَهُّم يوحى بالجدية والحكمة.. وبدأ الحديث.. فإذا به أقل وقاراً وأضحل كثيراً من سمت الجلسة.

حديثُ خلا من المنطق وإن لم يَخلُ من صخبٍ وخشونةٍ.. وبذاءة لا محل لها.. ومحاولات دءوبة للانتصار للرأى بالباطل والكيد وقهر الخصوم!

حديث- ومن أسفٍ- لم يغادر الهذيان فى كثير!!

قال الأول: لأ.. السفر بالأتوبيس أأمن.. وأدينا عارفينه ومتعودين عليه.. والحاجّ «فُلان» يسوق بينا.. وأهو راجل بَرَكة..!

فرد الثانى: الأتوبيس بطىء.. وإحنا عاوزين نوصل بسرعة.. نسافر بالطيارة.. وأهو الكابتن «فُلان» خِبرة..!

فانفجر الثالث فى نوبة صراخ يرائى بها حرصه على المصلحة العامة: إنتو مش حاسّين بالحال وبضيق ذات اليد.. طيارة إيه.. هو إحنا لاقيين ناكل لما نفكر نركب طيارات.. أو أتوبيسات.. بلا كابتن وبلا حاجّ.. أهو أى حد يتحرك وإحنا نمشى وراه.. إحنا لسه حانختار.. أهو المتاح وخلاص.. وأنا موجود..!!

فخرج الرابع بهدوء مدعياً الحكمة: السير على الأقدام صحة وأوفر.. أو أقول لكم نركب عَجَلة.. أهو فى أوروبا والدول المتقدمة بيركبوا عَجَل كتير.. وشبابنا بدل ما هو عاطل وقاعد على القهاوى أهو يحرك عضلاته شوية.. أقول لكم.. مركب تجديف.. كله رياضة..!

فإذا بطفل برىء يسأل على استحياء لم يخلُ من اشمئزاز: هو إحنا مسافرين «فين»؟!

فيصاب كل المتحدثين- من رئيسهم إلى مرءوسهم- بالخرس ولا يجدون إجابة..!

فإذا بطفل آخر أكثر براءة يسأل- مفترضاً فى نفسه وفى زميله قلة الوعى والخبرة.. ومتوهماً فى هؤلاء الصاخبين المسؤولية والأمانة والعلم..: هو إحنا مسافرين «ليه»؟!

فإذا بصمتٍ تام يُطبِقُ على المكان.. بعضه بوقع صدمة الأسئلة التى لم يفكر فيها هؤلاء المُتَقعِرُون وهم يُفاضلون بين وسائل السفر.. وبعضه برغبة الغوغاء التفكير فى أعنف وسيلة لقمع «البراءة والمنطق» حتى يجدوا لدورهم فى الحياة مَنفذا.. وهو الارتزاق بالصخب والبذاءة..!

ولكن الصمت طال والعجز طال أكثر.. حتى مع كل محاولات الغوغاء الصراخ والتشنج باسم المصلحة العامة وضرورة عدم التأخر فى الحركة.. فالحركة ضرورة.. الحركة فى ذاتها إنجاز (وليس تحقيق الهدف هو الإنجاز فى عرفهم) والحركة بركة (أى حركة فى أى اتجاه وعلى أى نحو).. حتى وهم يصرخون.. بقى الصمت وبقى العجز..!

هذا هو حالُنا فى مصر المحروسة.. وقَبله.. هذا هو حال أسئلة «الحقيقة» الغائبة فى وطننا..!

أسئلة «الحقيقة» لا تُجامل ولا تقبل بالركاكة ولا بالجهل.. ولا بضحالة الفكر.. مهما دُبِج ذلك كله بجدية زائفة وإخلاص مدَّعى أو احتكار للقيم العليا..!

فلا يستطيع أى هرج حركة أو ادعاء إنجاز أن يمنع أولوية أسئلة الحقيقة.. وضرورة تبنيها..!

لن يغنى صخب حديث الكيفية والسرعة والإنتاجية (هذا حال كونه حديثاً حقيقياً عن الكيفية والسرعة والإنتاجية).. عن مواجهة الأسئلة المصيرية الواجبة وهى «أين» نذهب بما نفعل..؟! «نحو» أى هدف نفعل ما نفعل..؟!.. و«لماذا» نفعل ما نفعل..؟!

ببساطة «قبل وعند وبعد» أى حركة.. لن تَحول سرعة الحركة ولا ادعاء جِدية الحركة ولا الإخلاص فى الحركة ولا استقاء البركة من الحركة.. دون سؤال إلى «أين» نتحرك؟!.. وقَبله «لماذا» نتحرك بالأساس؟!

مهما زاد الهرج.. أو زاد الصخب.. أو زاد القمع..!!.. أسئلة «الحقيقة» باقية.. أعلى صوتاً وأثراً.. وكل ما دونها.. سيبقى صمتاً وعجزاً..!

فى وسط لغطٍ لا ينتهى.. تتنازع المجتمعَ المصرى أسئلةُ قلِقةُ.. يُختَلَف إليها ويُختَلَف عليها.. عن الكيفية التى يدار بها شأن وطنهم اقتصاداً وسياسة وتعليماً وإعلاماً وأمناً وقيمة بين الأمم..!

تتنازعهم الأنواء.. بين أمل فى غدٍ مستحق وعدت به ثورتان.. وبين صدمةٍ فى حاضرِ مُشَوَّه.. لا يَعرِفون لماذا تبقى علاقتهم بدولتهم على هذا القدر من الاعوجاج..؟! ولا يعرفون لماذا تبقى إدارة شؤون حياتهم على هذا القدر من التراجع.. ولكنهم يبقون مستغرقين فى الكيفية.. منشغلين فى الشخصنة وحروبها وطموح مجدها.. وهكذا يراد لهم..!

فبين منتحلى الكمال ومدعى احتكار الوطنية والدين فى جانب.. وبين أنقياء حَسَنى النوايا مراهقى الوعى على جانب مقابل.. يُختَزلُ كل حديث عن المستقبل وملامحه فى بلد بقدر مصر إلى الحديث عن شخوص ومواقع سلطة وصراع مماليك على سلطة..!

يُختَزلُ الحديث بين مماليك يخافون «من» المستقبل وما يحمله لهم من غروب ومساءلة ومحاسبة.. وبين أنقياء يرون من الأمور ظاهرها.. يخافون «على» المستقبل ويريدون وعدَه بالدولة النقية المستقيمة والوطن العادل الحنون «الآن» وفى لحظة..!


ينخرط الجميع فى «حديث السلطة» وشخوصها ومواقعها.. غير عابئين أو قادرين على استدعاء «حديث الحكم» وضروراته وأولوياته.. وأشد ضروراته وأول أولوياته.. هى السؤال «لماذا» نَحكم.. وإلى «أى المقاصد» نحكم.. قبل «من» يَحكم أو يَتَحكم ومن أى موقع سلطة؟!

قبل أن ننزف الوقت والوطن فى صراعات مماليك.. هل آن لنا أن نعرف كيف نبلور لمصر ملامح «مشروع الحكم» اللائق بها.. وكيف نستشرف قسمات «الرؤية» الواجبة والمستحقة لوطن فى تاريخ مصر وما كُتِبَ لها من موارد مادية وبشرية..

هل آن لنا أن نُبصر علامَ «نصنع» قرارات هذا الوطن.. قبل أن ننشغل بـ«من» يتخذ قرارات هذا الوطن؟! هل لنا أن ننشغل كيف ندير شؤونه.. كيف «نُحَوكِمُهُ».. فى إطار تلك الرؤية وفى سياق هذا المشروع.. قبل أن يفكر البعض فى كيف «يتحكم» فى مقدراته ويتسلط عليه؟!

أما آن لنا أن ننجو بملفات بجدية وأهمية وخطورة ومصيرية «الرؤية» و«مشروع الحكم» من مأساة استخدامها كأدوات تدليس وإلهاء للشعوب وشراء الوقت لتثبيت أركان سلطة من يريد أن يتسلط؟!

كيف نستطيع أن ننجو بالقوى الحية والقادرة على حمل تلك الأمانة.. أمانة بلورة ذلك المشروع واستشراف تلك الرؤية من حديث السلطة المُبتسِر وصراعات المماليك المتدنية والبذيئة والدموية فى بعض الأحيان..!

كيف تقتنص تلك القوى الحية من الزمان «واحة عقل» تتواصل فيها بجدية بشأن أسئلة «الحقيقة» المُغيبة.. لتسأل وتبحث..

لماذا «الدولة»..؟! ولماذا «الاقتصاد».. ولماذا «التعليم».. ولماذا «السياسة».. ولماذا «الأمن»..؟!

واهم من يتصور أن إجابات تلك الأسئلة البديهية- والنهائية فى ذات الوقت- محسومة فى المجتمع المصرى أو بالأساس حاضرة.. !

فهل «الدولة».. هى مؤسسة إقامة العدل بحمايتها للقانون وصدق إنفاذه..؟! أم أنها مؤسسة ضامنة لتشوه النظام الاجتماعى الأقرب للإقطاعيات وقوانينها الطبقية منه إلى دولة حديثة فى القرن الواحد والعشرين..؟!

وهل «الاقتصاد» قائم من أجل طاقات إنسانية حُرة مُبدعة.. تعرف أنها تبنى حُلمها فى حُلم وطن تملكه وتعيش فيه.. تبنى بِحُرِيّتها وبإبداعها مؤسسات وطنية مقاصدها الرفاه والسعادة والترقى لأبناء هذا الوطن..؟! أم أن الاقتصاد احتكار لمقدرات الأرض ومواردها فى يد سلطة أوليجاركية ومحاولات بائسة لسد رمق جياع وضمان قتل حلم الترقى بالركود وذل الحاجة والانكسار أمام متطلبات الحياة.. فى بشر ينظر إليهم على كونهم رعايا تابعين.. لا مواطنين شركاء؟!

هل «التعليم» من أجل مواطن قادر على إيجادِ ذاته والتناغم مع قدراته.. مؤهل للشراكة فى مجتمعه والإسهام فى بناء دولة ذات منعة وهيبة..؟! أم من أجل إلقاء المجتمع كله فى دائرة جهنمية من الادعاء والنفاق العام وخلق مسوخ تحمل أوراقاً تشهد لها بالتعلم لا أكثر..!

مسوخ تُضيِّع الوطن ومستقبله حين تكتمل الدائرة لتضمن لها مواقع التسيد والقرار على قاعدة النفاق العام والتزلف ومداهنة المسؤولين.

ونظرة واحدة لمؤسسات الوطن كلها تفى وتكفى.. لتشهد بفداحة فعل المسوخ وبؤس أثرهم على مصر.. وما صار إليه حال أبنائها فى الداخل وما صار إليه مكانها بين الأمم..!

وبمثلها لماذا «السياسة» ولماذا «الأمن» ولماذا «الخطاب الدينى» و«العمل الإعلامى» وكل فعل فى حياتنا نرجو له صلاحاً وإصلاحاً..

وفى مراوغة تلك الإجابة أو صدقها.. إما تكريس مؤقت لـ«التيه» أو بداية حقيقية مخلصة لمسير نحو المستقبل.. بدأناه وإن تعثرت الخطى..!

ومن رحم أسئلة «الحقيقة» تولد زعامات مصر وقادة مستقبلها.. وتُطوى صفحات صراعات المماليك وولع السلطة.. إلى غير رجعة.. فتلك سُنَةُ إلهية.. ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

فَكِّرُوا تصِحُّوا.
نقلا عن المصرى اليوم


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع