بقلم : د. حسن أبوطالب | الاربعاء ٥ اكتوبر ٢٠١٦ -
١٦:
٠٩ م +02:00 EET
د. حسن أبوطالب
حذرت روسيا من زلزلة الشرق الأوسط، وليس فقط سوريا، إذا أقدمت الولايات المتحدة على ضرب قوات الرئيس الأسد وإسقاط النظام، معتبرة أن خطوة كهذه ستؤدى إلى سيطرة الجماعات الإرهابية ليس فقط على دمشق، بل على دول أخرى فى المنطقة. فى المقابل أوقفت واشنطن اتصالاتها مع موسكو بخصوص التحضير لعملية سياسية واستقرار الهدنة التى سقطت عملياً قبل أسبوعين. وما بين تهديد هنا وخطوة هناك ما زالت المعارك الطاحنة تدور حول حلب وفوقها، خاصة الجزء الغربى منها الذى تسيطر عليه الجماعات المسلحة الموالية لواشنطن والأتراك، ومنها ما هو مرتبط بالقاعدة كجبهة النصرة التى أعلنت انفصالاً رمزياً عن القاعدة قبل شهرين تقريباً. وفى منطقة الحدود مع تركيا تتواصل عملية درع الفرات التركية التى تستهدف إنشاء منطقة عازلة بعمق يتراوح بين 30 و40 كم لمنع أى وجود لقوات كردية سورية غرب الفرات، كما تجهّز نفسها لمزيد من التغلغل فى الأراضى السورية والقيام بعمليات عسكرية فى العمق العراقى بزعم المشاركة فى تحرير الموصل من مسلحى «داعش».
مثل هذه التطورات فى عمق الأراضى السورية لا ينفصل عن تصورات وخطط متناقضة، ليس فقط لمستقبل سوريا بل للمنطقة بأسرها، وهى خطط تتأثر بشدة بتناقضات الوضع الراهن على المستوى العالمى، ويمكن اعتبارها بمثابة زلزال أصغر يحدث أمام أعيننا جميعاً دون حتى أن يبهرنا أو يشد انتباهنا بما يكفى، بل إن من العرب من يشارك فيه عمداً دون أن يقدّر عواقب هذا الزلزال تقديراً سليماً وحكيماً على ذاته ووجوده.
الزلزال، كما هو معروف، فعل من أفعال الطبيعة القاسية يقلب الأشياء رأساً على عقب، حيث يخرج باطن الأرض ويظهر للعيان سطحاً جديداً، وينزلق ما كان سطحاً إلى العمق بكل ما فيه وما عليه. وأذكر أننى فى زيارة لكشمير الباكتسانية فى العام 2008، وكانت قد تعرضت قبل ثلاثة أشهر من الزيارة إلى زلزال متوسط القوة، ولاحظت أثناء الصعود إلى كشمير فى منطقة جبلية وعرة أن هناك لونين للجبل، أحدهما أبيض ناصع كأنه الثلج، وأجزاء أخرى ذات لون داكن بفعل التعرض للشمس لآلاف السنين. وحين سألت مرافقى الباكستانى شرح لى ببساطة أن الزلزال أتى بباطن الجبل ليصبح هو السطح الظاهر، فى حين أخذ القرى بسكانها وأشجارها ومبانيها وطرقها إلى عمق سحيق وأصبحت أثراً بعد عين. ولا تملك وقتها سوى القول سبحان الله العظيم.
إذا تصورنا زلزالاً سياسياً أو عسكرياً قد يحدث فى سوريا تحذر منه موسكو، وهناك مؤشرات فعلية لحدوثه، فالمنطقة برمتها أمام منعطف خطير للغاية. الآن نحن أمام سطح الجبل القديم الداكن، وعلينا أن نستعد لما يأتى من عمقه المجهول. المؤشرات عديدة، وأبرزها ما يتردد حول قيام واشنطن بتحرك عسكرى لدعم ما تعتبره المعارضة المسلحة المعتدلة لإفشال القوات النظامية ليس فقط فى حلب بل فى العاصمة دمشق نفسها. يتمثل الدعم فى تقديم أسلحة نوعية لجماعات المعارضة كالصواريخ المضادة للمدرعات وأخرى للطائرات، وعندها سيكون مصير الرئيس الأسد ونظامه على المحك، كما سيكون تصورنا لسوريا الجديدة تحت سيطرة هذه الجماعات المسلحة أمراً شبه مستحيل اللهم سوى الفوضى والخراب. والغالب أن تنزلق هذه الجماعات إلى صراعات وجودية لن تستطيع لا أمريكا ولا تركيا ولا الناتو بكامل عتاده أن تسيطر عليها. وقتها ستكون سوريا قد ضاعت بالفعل وقُسمت وتشرذمت، وأجزاء كبيرة منها ستكون تحت الاحتلال التركى، بينما ستكون أجزاء أخرى تحت سيطرة إيران وحلفائها، وغالباً سيعيد المشهد العراقى ذاته، ولكن فى سياق أكثر دموية وأكثر فوضى، وغالباً ستمتد إلى عمق الجوار السورى.
وإن حدث هذا الوضع المريع لن يسلم الأمن القومى الروسى من الأذى، وربما تكون تجربة التدخل العسكرى الروسى فى الأزمة السورية، والتى مر عليها الآن عام كامل، شبيهة بما جرى للاتحاد السوفيتى فى أفغانستان. وبدون أن نبخس قدرة الروس على قراءة التاريخ والاستفادة منه، علينا أن نلاحظ سياق التدهور الحادث بالفعل فى العلاقات الروسية الأمريكية، والذى يعيد إلى الذاكرة الكثير من مشاهد الحرب الباردة التى عاشها العالم بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الثمانينات حين انهار الاتحاد السوفيتى. ففى 27 سبتمبر الماضى خرج علينا وزير الدفاع الأمريكى بتصريح خطير قائلاً إن بلاده سوف تستثمر 108 مليارات دولار فى السنوات الخمس المقبلة لتحديث ترسانتها النووية لمواجهة التهديدات الروسية والكورية الشمالية، والأهم أنه اعتبر أن عدم استخدام الأسلحة النووية منذ 1945 إنجاز فى حد ذاته لكنه ليس من المسلمات، وبهذا ينذر العالم بأسره، وليس فقط روسيا أو كوريا الشمالية، باحتمال استخدام الأسلحة النووية مرة أخرى رغم كل ما هو معروف عن استخدامها من مآس وخراب. كما صرح أحد القادة الأمريكيين بأن بلاده لن تتنازل عن استخدام الضربة النووية الأولى عند الضرورة لحماية أمنها، والأمر ببساطة أن استراتيجية أمريكا هى البدء بالهجوم النووى.
روسيا بدورها تدرك ما تفكر فيه الدوائر الأمريكية، والتى قامت قبل عام بنشر أسلحة نووية صغيرة الحجم فى قاعدة ألمانية، وهى نوع من القنابل القابلة للاستخدام لأسباب تكتيكية وفى ساحات حرب محدودة جغرافياً، وقتها اعتبرت موسكو هذا التطور بمثابة لعب بالنار. عملياً، وقبل يومين، قرر الرئيس بوتين وقف العمل باتفاقية وُقّعت العام 2000 مع الولايات المتحدة كنوع من الرد على التهديدات الأمريكية تجاه روسيا الفيدرالية، وهى اتفاقية تم تجديدها فى العام 2010 وتهدف إلى التخلص من فائض البلوتونيوم المقدَّر بحوالى 34 طناً، والقابل للاستخدام العسكرى لدى الدولتين من خلال معالجته واستخدامه كوقود للمفاعلات النووية. وحسب موسكو فإن واشنطن لم تتخلص من فائض البلوتونيوم القابل للاستخدام العسكرى فى حين فعلت موسكو ما عليها من التزامات. وبالطبع فإن فقدان التوازن فى الالتزامات من شأنه أن يجعل روسيا أقل قدرة على تطوير ترسانتها النووية فى حين أن الولايات المتحدة تتحدث صراحة عن تطوير وتحديث شامل لهذه القدرات وترصد أموالاً خيالية.
إذا وضعنا الوضع الخاص بسوريا فى سياق العام بين موسكو وواشنطن ندرك بسهولة أن الحديث عن زلزال سياسى أمنى شامل لن يقف عند حدود الشرق الأوسط، بل سيمتد إلى رقعة واسعة جداً من العالم، والمؤكد أن التورط فى أمر لا إنسانى كهذا يؤكد أن غطرسة القوة قد أعمت القلوب والأبصار إلى ما لا نهاية.
نقلا عن الوطن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع