عرفت مصر الحياة البرلمانية منذ قرن ونصف القرن، وسوف تحتفل الأسبوع المقبل بمرور مائة وخمسين عاماً على تشكيل أول برلمان مصرى، وكان ذلك عام ١٨٦٦، قبل أن يظهر ثلاثة أرباع دول العالم اليوم. كما عرفت مصر التعددية الحزبية منذ أوائل القرن العشرين، وشهدت حياة برلمانية شبه ديمقراطية منذ أوائل العقد الثالث من القرن الماضى، وتطور النظام السياسى المصرى باتجاه ملكية شبه دستورية، وشهدت الحياة الحزبية والسياسية المصرية ازدهاراً تدريجياً إلى أن قامت ثورة يوليو ١٩٥٢ فقضت على النظام القائم ثم ألغت الأحزاب ودخلنا فى ظاهرة نظام الحزب الواحد المسيطر والمهيمن. وعندما أراد السادات اتباع التعددية الحزبية بدأ بنظام المنابر، ثم جاء نظام التعددية الحزبية الشكلية، حيث تكوّنت مجموعة من الأحزاب السياسية الكارتونية كى تلعب دور المعارضة الشكلية للحزب الحاكم الذى كان يوزع على الأحزاب عدداً من المقاعد البرلمانية فى مجلس الشعب ويعين رؤساء هذه الأحزاب فى مجلس الشورى ويمنح كل حزب نصف مليون جنيه من ميزانية الدولة لقاء لعب هذا الدور.
هكذا قضت ثورة يوليو ١٩٥٢ على التعددية الحزبية فى البلاد، وعندما أرادت إعادة التجربة كانت نسخة مشوهة لأحزاب كارتونية رُسم لها دور المعارضة الشكلية لقاء مكاسب محددة من الحزب الحاكم. استمر الحال كذلك حتى ثورة الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١ عندما سقطت بقايا نظام يوليو وظهرت عشرات الأحزاب السياسية التى تجاوزت الثمانين حزباً، وما استجد منها، بعضها كان من زمن الحزب الوطنى اتسم بالضعف الشديد فيما عدا أحزاب الإسلام السياسى، وتحديداً حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين، وحزب النور السلفى، وانتهت التجربة بسقوط مدوٍّ لأحزاب الإسلام السياسى وتم حل حزب الحرية والعدالة وتبقى حزب النور وعدد من الأحزاب الهامشية التى تمثل نسخاً مختلفة للإسلام السياسى.
تتسم الأحزاب المدنية الحالية جديدها وقديمها بالضعف الشديد بحيث يمكننا القول بانتهاء زمن حزب الأغلبية فى البلاد وأن ما لدينا من أحزاب سياسية لن يحصل أى منها على الأغلبية وأن الحزب الأول من بينها لم يتجاوز ١٠٪ من مقاعد البرلمان.
نعم الأحزاب المدنية ضعيفة ولكنها أحزاب حشدت لثورة الثلاثين من يونيو ولعبت دوراً هاماً فى هذه الثورة، كما دعمت غالبيتها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى السباق الانتخابى، ورغم انتماء المرشح الآخر حمدين صباحى لواحد من هذه الأحزاب، فإن غالبية الأحزاب أعلنت دعمها للرئيس السيسى فى الانتخابات الرئاسية، ومن ثم فهذه الأحزاب كان لها دور أيضاً فى انتخاب الرئيس. أيضاً ورغم عشرات الملاحظات على غالبية هذه الأحزاب فإننا نراهن عليها فى تطوير نظام سياسى ديمقراطى يقوم على التعددية والعمل مع الرئيس السيسى ومساعدته فى تنفيذ برنامجه، ومن ثم فهذه الأحزاب مهمة أيضاً للمرحلة المقبلة ومهمة لنجاح الرئيس فى أداء مهامه.
غاية ما نود التأكيد عليه هنا هو أنه لا حياة سياسية دون أحزاب، ولا ديمقراطية دون تعددية حزبية، وما يبدو واضحاً أن الرئيس فى حاجة لإعادة النظر فى موقفه من الأحزاب المدنية، فمهما كانت تحفظاته وملاحظاته على هذه الأحزاب، ونحن معه، فلا تطور سياسياً وديمقراطياً دونها، ومن ثم ننتظر لقاءات متكررة بين الرئيس وقادة وممثلى الأحزاب المدنية، لا سيما الفاعل منها على الساحة، وذلك لتطوير تجربة بلادنا فى التحول الديمقراطى التدريجى الذى ينهض على أساس من التطور الاقتصادى أولاً، فلا ديمقراطية حقيقية فى بيئة فقيرة يسودها الجهل، ومن ثم لا بد من تحقيق معدلات مرتفعة من التنمية وتحسين مستويات معيشة الشرائح الدنيا، بل والوسطى فى المجتمع، وأيضاً القضاء على الجهل والأمية أولاً، حتى يترسخ أساس الديمقراطية فى الثقافة المصرية كقيمة وأيضاً القيم المصاحبة كالعدل، الحرية، المساواة، حرية العقيدة، حرية ممارسة الشعائر الدينية، وضع أساس قوى للفصل ما بين الدين والسياسة، إذا تحقق ذلك فسوف يكون بناء نظام سياسى ديمقراطى مسألة وقت لا أكثر.
نقلا عن الوطن