■ يشهد على هذه الواقعة الدكتور الاستشارى الكبير نبيل سالم، زوج الإعلامية القديرة صديقة زمن جميل «سناء منصور». كنا فى مطار القاهرة ساعة عصرية، أنا أنتظر عودة حنان ابنتى من زيارة عائلية فى برشلونة، ونبيل سالم ينتظر زوجته العائدة من بروكسل. وكالعادة قطعنا الانتظار بالسمر وتذكر الأيام الخوالى وفجأة مر أمامنا مسافر عائد يدفع حقائبه بنفسه وفيه ملامح جدية صديقى د. يحيى الرخاوى ولكنه ليس الرخاوى، وقف المسافر العائد يرمقنى بنظرات غريبة فتصورت ببراءة أنه لا يعرفنى، خصوصاً أنى كنت أستجيب لرغبات بعض المضيفات لصورة سيلفى، فتقدمت نحوه وقلت له: أنا مفيد فوزى، فإذا به يفاجئنى «عارفك كويس» قالها بتقطيبة جبين تهدى طاقة سلبية لمطار القاهرة بالمسافرين والعائدين والطائرات التى على وشك الإقلاع! قلت له: خير؟! قال: كفاية تطبيل للسيسى. قلت: هل أنا مطبلاتى للسيسى؟ قال: أيوه و«مستعد تبلع له الزلط»، قلت: نعم قلتها وأكررها لأن السيسى يا حضرة هو طوق النجاة من إخوانك والسلفيين. قال بضيق شديد عندما قلت «إخوانك»: السيسى أفقر البلد وفقد الشعبية، قلت: هل راقبت مصر فى ظروفها الصعبة، لقد خرجت من رحمها مولوداً جديداً يستعصى على الانكسار، ثم تعال قل لى ما هو مفهوم التطبيل عندك؟ قال الرجل الغامض الذى لم أسأله عن اسمه، الذى «لا ينتظره أحد»: ماتعرفش التطبيل إزاى؟ قلت للرجل: فى مثل عمرى لا يصح هذا الاتهام وإذا كان الوقوف خلف رجل وطنى مخلص شغال مسافر للشرق والغرب ومالى مركزه ويحاول إصلاح ما أفسده الإخوان ويفكر للغد ويصارحنا بأوضاعنا الاقتصادية، تطبيلاً، فأنا طبال!! قال: شايف حال البلد؟ قلت: شايف بلد مابتشتغلش وبتستورد أكتر ما بتصدر، وشايف طمع وانفلات وقعاد على القهاوى وشايف غدر برجل محترم أنقذ البلاد من حكم المرشد وسنينه: ده اللى شايفه، ووجدتنى أقول له وهو يكح كحة عصبية: عندما أنادى علناً فوق صفحة جورنال أو شاشة تليفزيون «وسع دائرة مستشاريك من الكفاءات المدنية يا ريس»، فهل هذا تطبيل؟ وعندما أكتب: قناعاتى أن الينايرية «عصيان فوضوى برعاية أمريكا مهد لمنصات الإخوان»، وقناعاتى «أن مبارك مصرى وطنى وعسكرى نابه وحاكم أخطأ وأصاب» وقناعاتى «أن السيسى قام بأخطر مغامرة تكلفه حياته من أجل إنقاذ مصر الأرض والعرض ومازال مستهدفاً من قوى الشر الباغية» وقناعاتى «مد يد الإصلاح لماسبيرو جامع التراث وديوان الحياة المعاصرة بدلاً من بناء كيانات جديدة وغربلة الشاشات بمعيار الوطنية حتى لو كان معارضا فهل هذا تطبيل؟ هل «شتيمة الرئيس» و«التندر» على أقواله والتشكيك فى إنجازه هو المطلوب؟ قل لى: هل أنت إخوانى أم سلفى أم عميل أم مخرف بحكم العمر؟!
وتركنى الرجل ودفع بحقائبه بعصبية دون أن يرد إلا بزفرة حادة، وأنا لا أمسك الدفوف للرئيس ولكنى أفرح لمواقفه الرجولية فى الأداء حتى لو كان الدواء مراً، فالطبيب بضمير لا يخدع مرضاه.
■ كان أهرام «هيكل» يحتفى بالأقلام المضيئة والمستنيرة والأهم والمقروءة. كان يختال بهذه الأسماء ويفخر بأن إنتاجها يظهر على صفحات الأهرام، كان وجود أيقونات الفكر فى الدور السادس، هى قامة وقيمة: توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، زكى نجيب محمود، إحسان عبدالقدوس، أحمد بهاء الدين، ثروت أباظة، صلاح طاهر. وجاء واحد من أسرة الأهرام هو إبراهيم نافع ليجلس على الدفة وتتنوع الإصدارات الجديدة وتبدع، وتمتلئ خزينة الأهرام بنجاح غير مسبوق، ويكسب الأهرام ثقة قارئه، واستطاعت صحافة هيكل أن تجعل من «أهرام تكلا» صحافة شابة ومعاصرة.
من بين الأقلام التى زينت صفحات الأهرام وأحد إبداعاته المعاصرة «نص الدنيا»، قلم الأستاذة الكاتبة الكبيرة سناء البيسى، أتذكر أنى كنت قد أجريت حواراً مطولاً مستطرداً مع الأستاذ محمد حسنين هيكل وسألته: أين أنشره؟ فقال لى بطريقته الحاسمة: أولاً، خليك بعيد عن المجلات المصورة، ثانياً كنت أوافق على نشره فى صباح الخير لو كنت مازلت رئيساً للتحرير، ثالثاً أنا متحمس للنشر فى نص الدنيا، بقيادة سناء البيسى. وأبلغت سناء البيسى بالنقاش الذى دار بينى وبينه. فسعدت جداً واعتبرتها هدية شخصية من هيكل «أبوالصحافة الحديثة فى مصر»، ونشرت سناء البيسى «إعلان» عن الحوار المطول «استغرق سبعة عشر أسبوعاً» وتحول بعد ذلك إلى كتاب، أصر د. سمير سرحان على نشره ويحمل اسم «هيكل الآخر»، كنت أسعد الناس بنشر الحوار فى أحد إصدارات الأهرام المهمة، وواكب هذا نشر حوارين مهمين على صفحات الأهرام «إبراهيم نافع» بطلب منه، أحدهما مع كورت فالدهاين سكرتير الأمم المتحدة الأسبق، وجرى الحوار فى النمسا بمعاونة سفيرنا فى فيينا د. مصطفى الفقى، والحوار الثانى مع رئيس الرقابة الإدارية هتلر طنطاوى وكان هذا أول حوار له! وفى أهرام الفاضل «أسامة سرايا» دعانى للكتابة على صفحات الأهرام كل يوم سبت، وكانت تعليقات سناء البيسى موجزة وناجزة، فهى التى قالت لى يوماً: اسأل ولا تكف عن السؤال، فأنت ولدت للسؤال.
هذه هى سناء البيسى التى قالت عنها سعاد الصباح «إنها الحكمة فى أشهى عباراتها، وحديث الإنسان مع شجرته المحرمة».
تخيلوا معى أن يحتجب عن أهرام السبت مقال سناء البيسى وهى ليست مريضة وقلمها بصحة، وهى المبحرة فى كنه الأشياء بأسلوب فريد. هذه الرائعة ذات الكبرياء الرصين والكرامة المهنية، ماذا يمنعها من التواصل مع قارئها. لماذا اتخذت قراراً بالصمت فى زمن الثرثرة؟ لماذا أمرت قلمها أن يسكت ولا يلح عليها بالكتابة حين تتجمع سحب القرف وأنيميا الفهم فى سماء ضيقة وحتى لا يذهب الخيال بعيداً، فمن حجب قلم البيسى ليس الدولة، ولا أى مسؤول ما. لكن الحروف تتوجع لصمت سناء البيسى.. وتشتاق لها وقد تتوجع الحروف «ألماً» فى يد قلم كاتب آخر!
■ وما دمنا فتحنا سيرة الكتابة والكتاب، فالملاحظ هو «ندرة» الكتاب أصحاب الأساليب المميزة، أى ذات التأثير على القراء. والأسماء «المجهولة» أكثر من الأسماء «المعلومة». وبعض أسماء رؤساء تحرير الصحف لا أعرفهم. فليس لهم- عفواً - فى ذاكرتى جهد مشهود. فلا نجاح ملموس فى التحقيق الصحفى ولا تميز فى المقال ولا قدرة فائقة على التحليل، ومازال المتخصصون من مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية هم «الأقدر» على الكتابة التحليلية. هناك مديرو تحرير فى الصحف ولكن شهرتهم لا تتعدى الـDesk. فى الصحافة أيضاً «كاريزما» الكتابة. هناك أسماء عندها «حضور» وأسماء أخرى تتمتع بـ«انصراف». وفى التغييرات الصحفية، تعدد أسماء الجدد، مشكلة، وذلك لقلة ما يسمى الموهوبين، اسماً ومهنية. الكتابة هى المهنة الوحيدة التى يحدد اسم الكاتب «حجم» موهبته. وربما تقلص إلى حد بعيد «الكاتب الفنان» وأقصد به القلم السخى فى اللفتة والملاحظة والمعلومة. هناك شباب بارع فى القصة والشعر والخواطر، وربما كانت هناك مواهب مدفونة تحتاج للكشف عنها. لا أحد على وجه التحديد مسؤول عن ندرة المواهب الصحفية لأنها تعتمد على صاحب القلم: ثقافته، معلوماته، شخصيته، تواصله مع الحياة والناس والذكاء شرط جوهرى. اليوم الفرص متاحة، وعدد كتاب الأعمدة يقترب من عدد القراء. ولا يبقى غير سطور «العمود» ومدى حلاوة أسلوبه المشحون بالمعلومات. ولو كان هيكل أو مصطفى أمين أو موسى صبرى أو جلال الحمامصى أو أحمد بهاء الدين أحياء، لاستغنوا عن ثلاثة أرباع كتاب أعمدة صحف هذا الزمان! وليست الأقدمية- بالمناسبة- مؤهلاً إلا إذا كانت «مكحلة» بالموهبة. والموهبة يشى بها سن قلم الكاتب ولا توجد «أقراص موهبة» فى الصيدليات أو فى نقابة الصحفيين..!
نقلا عن المصري اليوم