بسمة السعدي، امرأة من زمرة المحجبات الأنيقات المنمقات، طالما اهتمت بأن تكون طرحة الرأس من نفس ذات لون حقيبة اليد و الحذاء و حزام الخصر. بسمة من تلك الطبقة التي تُعرف باسم الطبقة المتوسطة العليا والتي تصارع حتى لا تكون طبقة متوسطة سفلى في زمن تعويم أو غرق الجنيه أو أيهما أقرب.
أسرة بسمة من العائلات المتدينة تدينًا وسطيًا في بلد وسطي مؤمن بفضل الحجاب و النقاب و الإسدال و جوارب القدمين لأن أقدام النساء فتنة !!
أمة عكفت على تحجيب الفتيات منذ نعومة أظافرهن لأن شعر المرأة ابتلاء المجتمعات الجاهلية التي لا يهمها خطورة رأس و كفوف و كعب المرأة الفتاك، ومن المعروف أن شعر المرأة عورة يهيج عليه رجال خير أمه أخرجت للناس، و حين يرون شعر المرأة متدليًا على كتفيها.. ينتصبون فلا يعملون و لا ينتجون، و قلة الإنتاج بسبب انتصاب الأمة و عجزها عن العمل يؤدي إلى التضخم والغلاء، ومن هنا جاءت فتوى علماء الأمة الأفذاذ فقالوا أنه سينتهي الغلاء حين تتحجب النساء!!
بالرغم من ارتفاع المستوى الثقافي والاجتماعي لعائلة بسمة السعدي إلا أن أسرتها أقنعتها بالحجاب وهي في الـ 13 وطالما كانت بسمة تردد أنها ارتدته في هذه السن الصغيرة عن قناعة تامة .
و كانت بسمة تعمل منذ سنوات في إذاعة خاصة اسمها "كلام الناس"، ولم تكترث بسمة بفتوى صوت المرأة عورة... وضربت بها عرض و طول الحائط، بالرغم أنها فتوى علمية مسجلة في قسم طب الأنف و الأذن و الحنجرة في جامعة طلال بن بلال بن ملال، و إنما الشيوخ المقربين لطلال بن بلال أفتوا أن صوت المرأة ليس عورة إن كانت تلك المرأة ستقرأ نشرات الأخبار في إذاعة يملكها رجل أعمال وطني اعتاد بث المارشات العسكرية والقرآن يتخللهما "كلام الناس" وعادة فإن كلام الناس يكون مؤيدًا للسلطة السياسية والدينية .
بلغت بسمة من العمر 35 ربيعًا و هي لازالت ترتدي الحجاب، التزمت به في سنوات المدرسة والجامعة والعمل وشعارها الحجاب التام أو الموت الزؤام. على مدار 22 عامًا لم يداعب الهواء الطلق َشعر بسمة و لا مرة واحدة، فهي صابرة حتى تنعم بالجنة في الآخرة كما قال الشيخ عمرو صالح الذي احترف الدعوة مرتديا الجينز الشرعي، بعدما تخرج من كلية التجارة بلا عمل وفشل في الهجرة غير الشرعية والشرعية كذلك، فما أجمل الدعوة وما أجمل نقود الدعوة للحجاب!! إنها عطايا الله التي يهبها لعبادة المؤمنين القانطين الساجدين في بلاد الخليج تحديدا، الخليج الذى أضحى قبلة الداعية، لأنه يجزل له العطاء كلما تحجبت النساء على يده في مصر.
بدأت بسمة التململ من الحجاب بعد 22 عامًا، لقد بدأ ُيشعرها بالاختناق، و قالت في نفسها ماذا لو خلعته كما تخلعه كثير من الفتيات الآن ؟! لكن بسمة تخشى كلام الناس في إذاعة كلام الناس وفي مجتمع كلام الناس، فقررت أن ترجئ قرارها حتى تستجمع رباطة جأشها ..
و في ظل إرجاء قراراها بدأت بسمة تقرأ عن حركة تحرر المرأة في مصر والعالم، وفطنت إلى أن خلع الحجاب ليس هو خلاصة تحرر المرأة ، فتحرر المرأة في استقلايتها وعملها وفكرها وثقافتها وقراراتها التي لا تُملى عليها، فكم من فتاة غير محجبة وغير متحررة الفكر !!
أُعجبت بسمة في خضم قراءاتها بالكاتبة البريطانية المدافعة عن حقوق المرأة "ربيكا ويست" حين قالت عام 1911 أنها ترفض أن تكون ممسحة للأقدام، و أُعجبت كذلك بالحقوقية والصحفية المصرية "منيرة ثابت" حين قالت في عشرينيات القرن الماضي بما معناه أن "خلع الحجاب لازال يُقابل بشىء من الاضطراب في نفس الرجل الذي لم يتعود في وجه المرأة على الصراحة والنزاهة" .
بسمة بالرغم من ذلك أرجأت مواجهة خلع الحجاب مع أفراد الأسرة وزملاء العمل والجيران، حتى حارس العقار تحمل بسمة همّه حين تخلع الحجاب، فهو لها بالمرصاد.
وفي يوم ما، قابلت بسمة ابنة حارس العقار على ُسلم العمارة واسمها "عائشة"، وتبلغ من العمر 6 سنوات، كانت عائشة بضفيرتين ولكن صباح ذلك اليوم كانت تعتمر خمارًا يدنو من ركبتيها النحيفتين المختبئتين خلف جلباب تجره خلفها، فعائشة مثلها كمثل شقيقاتها اللاتي ضربن بخمرهن على جيبوهن.. حالما رأت بسمة خمار عائشة، هرعت إلى أم عائشة زوجة حارس العقار.
بسمة: يا أم عائشة، مش بدري حجاب عائشة
أم عائشة: بدري من عمرك يا ست بسمة، دي عندها 6 سنين، لازم نلحجها قبل ما خراط البنات يخرطها
سكتت بسمة للحظة و قالت في نفسها "سيخرطها الخراط فعلا، ليس خراط البنات وإنما خراط العقول الذي سيقنع عائشة أنها عورة منذ الميلاد وحتى الممات، فجأة ظهر والد عائشة حارس العقار "عم بكر".
بسمة: يا عم بكر لسة بقول للست أم عائشة أن حجاب عائشة بدري عليها
عم بكر: البت عندها 6 سنين، بنات غيرها شايلين بيوت يا ست بسمة
بسمة: بيوت إيه يا عم بكر؟
عم بكر: مسمعتيش الشيخ عبد الله مرسي في التالافازيون وهو بيجول البت ممكن تتجوز لو تتحمل الوطء
بسمة: ده شيخ متخلف
عم بكر: متجوليش متخلف.. ده شيخ أزهري وكان لابس بدلة كمان ..يعني أفندي متعلم
بسمة تحاول استيعاب ما تسمع، الشيخ أصبح أفندي يرتدي بدلة لكن تفكيره لم يتغير، وقشرة الحضارة التي يرتديها عجزت عن الارتقاء بعقله الذي يرى أن الفتاة قد تتزوج في السادسة إن تحملت الوطء!! وحارس العقار يستمع لهذه الفتاوى حتى وإن كان يعيش في حي المعادي الراقي، لكنه أتى بثقافة قريته وفتاوى الشيوخ واحتل بهما المدينة ليُحجب حارس العقار بناته جميعهن في "غزوة الحجاب" التي ضربت المدينة كالعاصفة على مدار أعوام .
بسمة: أنا خايفة بس تكون عائشة لبسته غصب عنها
أم عائشة: مفيش غصب، كل البنات في الحضانة لبسوه، حتى البت شيماء اللي كانت بتيجي الحضانة من غير حجاب، اتحجبت برضاها من غير غصب بعد ما المدرس جص شعرها بالمجص أدام البنات
بسمة قررت أن تنهي هذا الجدال وقبل أن تصعد إلى شقتها، رأت الطفلة عائشة ترفع جلبابها من على الأرض و تقول في صوت طفولي بريء
" أنا لابسة الحجاب عن اقتناع يا ست بسمة، أنا عايزة حتة شيكولاته زي اللي جبتيهالي امبارح"
لم ترد بسمة على عائشة وعادت إلى شقتها تجر وراءها أذيال خيبة الحضارة وأذيال انتكاسة الثقافة، نظرت بسمة في المرآة وهي تخلع حجابها، تذكرت صوت عائشة ذات الست سنوات وهي تقول أنها ارتدت الحجاب طوعًا و تذكرت بسمة نفسها وهي مراهقة تدعي أنها ارتدت الحجاب عن اقتناع وتنكر أن الحجاب كان بأمر غير قابل للنقاش من والدها المتعلم.. لقد رأت بسمة نفسها في عائشة مع اختلاف الظروف الاجتماعية.. خلعت بسمة حجابها وكانت آخر مرة تخلعه لأنها لن تعتمر الحجاب ثانية.. لم تخلعه بسمة و تطأ عليه بأقدامها في ثورة عارمة، فهي لا تكره قطعة القماش، بل تكره الكفن الذي كانت تعيش فيه، صنعت بسمة من حجابها كوفية وذهبت إلى العمل دون أن تهتم هذه المرة بتناسق ألوان الحذاء والحزام وحقيبة اليد، كانت لأول مرة على سجيتها وطرحتها تلف عنقها لا رأسها ...
سارت بسمة السعدي في طرقات عملها لأول مرة وهي تشعر بالسعادة الغامرة ، ابتسامة بسمة لم تكن مصطنعة ذاك اليوم، فهي لم تعد تشعر بالاختناق، وفتحت باب الأستديو الذي تقرأ فيه نشرة الأخبار في إذاعة كلام الناس وإذ بزميلها مُصعب الظواهري... وهو عريض المنكبين يهب واقفًا
مصعب: قلعتي الحجاب يا بسمة، هار أسود!!! (وهو يضرب كفًا على كف و من بعدها يضرب بكفه على الطاولة)
بسمة: قول مساء الخير الأول يا مصعب
مصعب: الخير يجي منين والبنات بتقلع الحجاب
بسمة: الحجاب حرية شخصية
مصعب: لا إنتِ فاهمة غلط.. حرية تلبسيه مش حرية تقلعيه
بسمة: و هي دي تبقى حرية؟! ده اسمه غصب
مصعب: هي الحرية عندنا كده.. بالغصب.. بالعافية
بسمة: أنا حرة يا مصعب
مصعب: حرة !! حرة ترفضي تكريم المرأة المسلمة بالحجاب
بسمة: مكرمة المرأة عقلها وفكرها وشغلها و ...
مصعب: بس بس بس، ايه فاكرة نفسك فين؟ في برنامج حواء تحت الأضواء، حجاب المرأة زي غشاء بكارتها، ترضي حد يكشف على عذريتك؟ أهو كشف العذرية زي كشف الشعر، يعني أنا قاعد أقنع زميلتنا الجديدة ميار تلبسه، تقومي أنت قلعاه
بسمة: شغلتك مش تقنع البنات بالحجاب يا مصعب، شغلتك تقرأ نشرة الأخبار
مصعب: أنتِ أعلنتي الحرب على الحجاب، أعلنتي الحرب على كلام ربنا
بسمة: أنا مش بعلن الحرب على الحجاب أنا قلعته، واللي عايزة تلبسه هي حرة بس ميكونش عندها 6 سنين ولا 13 سنة ولابساه بالغصب ولا المدرس قصلها شعرها في المدرسة، وسيب ربنا يحاسب الناس، هو أعلم بالنوايا، أنا مسئولة عن قراراتي
مصعب: مين قال إنك مسئولة ولا فاكرة أنك علشان مش متجوزة تبقى حرة، أنتي مش عارفة إن أبوكي يتحاسب عليكي وإنه كده يبقى ديوث
بسمة: لا والدي مش حيتحاسب عليا لأني مستقلة بصرف على نفسي، و ايه ديوث دي؟
مصعب: حتى مش عارفة صحيح إسلامك و لا إنتي مش مسلمة ولا ايه حكايتك؟ مش عارفة الديوث !! هو الذي لا يغار على أهله ومحارمه ويرضى بالمعصية وتبرج نساء بيته ويرضى بالفاحشة..استغفر الله ..
بسمة: فاحشة!! أنا قلعت الحجاب، فين الفاحشة؟ الفاحشة يا مصعب أنك تكذب وتسرق وتخون وتغتاب الناس
مصعب: كاسيات عاريات مائلات مميلات !! (يتمتم)
بسمة: أنا مش مضطرة أدافع عن نفسي، أنا اخذت قراري وإنت مجرد زميل مش من حقك تدخل في حياتي
مصعب: الحق عليّ قلقان عليكي من عذاب يوم عظيم
بسمة: الله كريم يا مصعب، أنا شايفة الله كريم وإنت شايفه المنتقم الجبار.. دي مشكلتك
مصعب: خايف تتعلقي يوم القيامة من شعرك وده عقاب من لا تغطي شعرها للرجال وخايف أشوفك متعلقة من جسمك لأنك كنتي بتتزيني للناس
بسمة: وأنا خايفة أشوفك متعلق من لسانك علشان قلة ذوقك، منيرة ثابت كان عندها حق، فيه رجالة مضطربة مش قادرة تتقبل الصراحة و حرية القرار من الستات
مصعب: الله يحرق منيرة ثابت على المجلس القومي للمرأة اللي ضيع بنات مصر، أكيد قريبة سوزان مبارك ما هي اسمها الحقيقي سوزان ثابت
بسمة: منيرة ثابت صحفية و حقوقية ماتت سنة 1966، ومتقربش لسوزان ولا جيهان، إنت محتاج تقرأ حاجة غير كتب عذاب القبر يا مصعب!!!
بسمة نظرت إليه بتجهم، لقد أدركت ما يفعله، إنه يرهبها و هي قررت ألا يرهبها أحد بعد اليوم، يحاول أن يرهبها تارة بالآخرة وتارة أخرى بأنها ترتكب فاحشة، حاول أن يقلل من شأنها لكن شأنها وثقتها لم يهتزان للحظة، لقد قرأت أفكارة الترهيبية لكنها تحاول أن تفهم لماذا يخشى المجتمع من خلع المرأة لقطعة قماش من على رأسها أكثر مما يهتم بفقير لا يجد قطعة قماش تستره؟!!
العجيب أن مصعب الظواهري يقدم برنامجا على إذاعة كلام الناس يحمل عنوان "مصر تحارب الإرهاب" يتحدث فيه عن انجازات مصر في محاربة الجهاديين في سيناء، بينما لم يكف هو عن الجهاد ضد حرية الفتيات ولم يكف عن إرهاب من تخلع الحجاب.
مصعب يرتدي أحدث خطوط الصيحات العالمية لكنه يفتقد لقيم الحضارة تمامًا مثل الشيخ الذي أفتى بزواج الفتاة ذات الخمس سنوات إن تحملت الوطء، بدلا من أن يُشكل مصعب الوعي الجماهيري، قام بتشكيل عصابي يرهب فيه النساء اللا محجبات واللا محتجبات ولم يكف عن وطء و نكاح عقول الناس.
أنهت بسمة عملها وغادرت وسط همزات و لمزات الناس ومصمصة الشفاة، فمصمصة الشفاة لا تعرف حواجز طبقية ونالت من الطبقات النخبوية كذلك، لكن بسمة لم تعبأ بكلام الناس، كل ماكانت تفكر فيه هو أن تشتري الشيكولاته التي تحبها عائشة حتى لا تكسر بخاطرها، عادت بسمة إلى منزلها ووجدت الطفلة عائشة تلعب على الرصيف بدون حجابها الذي يعوقها عن اللعب، لقد خلعته بالفطرة ..مدت عائشة يدها لتأخذ الشيكولاتة من بسمة وفجأة سمعت صوت أبيها، فألقت بالشيكولاته وأسرعت تلبس حجابها ثم التقطت الشيكولاته من على الأرض ونظرت إلى بسمة وهي تضحك ضحكة طفولية أشبه بزقزقة العصافير وقالت
" أنا لابساه الحجاب عن اقتناع يا ست بسمة"
بسمة لامست وجه عائشة بلمسة حانية وابتسمت ابتسامة فاترة، لقد أدركت أن مصر تواجه غزوة الحجاب منذ عقود.. حجاب ليس مصنوع من قماش، حجاب كالستار الحديدي على عقول الناس !!
نقلا عن masreiat
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع