في تشخيصه لحالة الثبات التي كان عليها الرئيس الراحل صدام حسين بينما حبل المشنقة يلتف حول عنقه وهي اللحظات الكافية لانهيار أشد الرجال بأساً وأكثرهم قدرة على التحمل قال الدكتور أحمد عكاشة الخبير النفسي في تصريحات تم نشرها إبان تنفيذ الحكم أن هذا الثبات الغريب يمثل حالة يطلق عليها" التجاوز المتسامي " أو " تجاوز حدود الذات " مشيراً إلى أن هذا التجاوز يحدث للأفراد أثناء المحن والكروب والاعتقال والالتحام في الحروب والانتحار والتعذيب والإعدام ، كما في حالة صدام ، والذي كان يتمتع بسمات شخصية يستطيع من خلالها تخفيف شدة الكرب ، وقال عكاشة : التجاوز المتسامي يجعل الفرد يتجاوز حدود جسده وينظر إلى ذاته ، وكأنه خارج الجسد ، فلا يشعر بالألم ، ولكنه يتوحد مع إيمانه واعتقاده الخاص بأنه مع الشهداء ..

 

كان هذا إيجازاً لطرح وتفسير علمي  لعالم كبير ، يمثل في النهاية وجهة نظر أرى أهمية تناولها بالتأمل في تلك المرحلة لأننا في كثير من الأحيان نحتاج لمن يفسر لنا الظواهر والأحداث ويطرح رؤى وإجابات لعلامات استفهام كثيرة .. وبقراءة متأنية لتشخيص حالة صدام حسين أرى أنها توجز وتشخص حال الأمة العربية في تلك المرحلة من التاريخ ولنتأمل ذلك التقابل الواضح  بين شخص صاحب أم المعارك وأمته صاحبة أم الخسائر والأحلام الضائعة :

• صدام شهد في مراحل هامة من حياته معاملة قاسية من زوج الأم تصل إلى حد الإيذاء بالإضافة للمعاناة من حالة فقر واحتياج أشد قسوة فكان الانكفاء على الذات والانطواء  والتقوقع ، وفي مرحلة تالية إعلاء كاذب للذات كرد فعل متوقع .. وأمتنا في المقابل طحنتها عهود الاستعمار والظلم والاستبداد وقهر الإرادة فخلفت نلك الأزمنة شعوباً فقيرة مكدودة تحمل هم الحرية وتتطلع لحلم الاستقلال ومع انتظار الأحلام تحول الحديث عنها إلى شعارات وقد تتحول الشعارات إلى دفعنا إلى  صناعة بطولات وأبطال وإنجازات وهمية ..

 

• صدام كان بتركيبة بنيته الضخمة نسبيا ، وبحرصه على إبداء مظاهر العظمة وإتقان رسم ملامح الهيبة والصرامة والسيطرة المطلقة بأعصاب باردة يمكن القول أنه يطبق مفهوم " دعني أقوم بتفصيتك وبعدها نتفاهم على الامتثال لما أريد " بالإضافة إلى اتصافه بحالة جمود وغرورفي غير استناد  في الحقيقة على شئ سوى فراغ وخواء فكري وانفصال عن حضارة وحاضر شعبه ... ويقابل ذلك حالة أمة حرص كبار قومها في شوارعهم على مظاهر الأبهة من عمارات شاهقة وقصور مبهرة الجمال والثراء واقتناء سيارات فارهة بات منتجوها يعتمدون ، بل ويراهنون على نجاح تسويقها في منطقتنا العربية وحصد ملايين من دولارات العرب الميامين الكرماء ، ولايهم حالة العجز عن إنتاج حتى علبة كبريت آمنة أو عدم القدرة على مقاومة انتشار عشوائيات الجهل والمرض والخوف خلف القصور ومنتجعات الأحلام أو القضاء على ظاهرة أولاد الشوارع من أبناء وبنات الفقر المر الطاحن في عواصم العالم العربي من المحيط إلى الخليج ...

 

المقابلات كثيرة ومحزنة بين حال رجل عاش وهم الزعامة حتى تمثلها صمودا مريضا على طاولة الإعدام فضاع وضيع شعبه ، وبين أمة لم تبارح شعوبها مناطق الفخر بتاريخ لم يعد له وجود حيث لم يكن هناك حرص على تواصل العطاء وتحقيق الامتداد في الزمن  فضاعت مآثر الحضارة القديمة والأمل في استثمار النتائج في صنع مستقبل مأمول ، ولم يتبق سوى التباكي على الأطلال أو التفاخر بما بقى من أمجاد الأجداد ، ثم الحديث عن مؤامرات تحاك ضدنا في المنطقة وأننا مستهدفون ثم لانحرك ساكنا حتى عندما يقترب الغاصبون من أعز مقدساتنا في القدس في انتهاكات صريحة وواضحة اللهم سوى ظواهر صوتية عبر فضائيات وصحف الضجيج والشعارات بعد أن توهت الأمة صراعات بينية لأسباب سياسية كان ينبغي نطرحها بعيدا... 

 

في لقاء لي مع  الراحل الرائع  د. أحمد جويلي عندما كان يتولى منصب الأمين العام لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية والمعروف بنظرته العلمية الموضوعية للأمور قال لي أن العرب مرشحون للاختفاء .. والعبارة رغم قسوتها تُعد تجسيداً لحال أمة صار واقعها يفيض بالمآسي والتراجيديات المؤلمة يفصل بينها وبين العالم المتقدم بحوراً تمتد وتتسع في تباعد عن شواطئ الأمان لأن أصحاب القرار مصرون على مخالفة قوانين ونواميس الكون والطبيعة وتعاليم الأديان التي تحرضنا على العمل وإعمال العقل والتشبث بمنجزات العلم وإضافاته والاندفاع نحو الإنتاج باعتباره الخلاص والحل الأوحد حتى لا نظل أمة خارج السياق الكوني .. أمة خارج جسدها !!