الأقباط متحدون - حتى لاننسى: مات المفكر.. وعاشت الفكرة..
أخر تحديث ٠٥:٥٨ | الثلاثاء ١١ اكتوبر ٢٠١٦ | بابة ١٧٣٣ش ١ | العدد ٤٠٧٩ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

حتى لاننسى: مات "المفكر".. وعاشت "الفكرة"..

فرج فودة
فرج فودة

الساعة: السادسة والنصف مساءً، مع الدقائق الأخيرة من نهار صيفى، الزمن كان مختاراً بعناية، فبعد قليل يحل الليل، وتكون الفرصة سانحة للهرب والاختباء تحت غطاء الظلام. اليوم: قبل 23 عاماً، فى الثامن من يونيو 1992 «عام الزلزال» الذى اهتزت فيه مصر مرتين، أولاهما فى منتصفه بـ«رصاص الإرهاب» الذى أسقط أحد أبرز مفكريها، وثانيتهما بـ«هزة أرضية» فى أواخره لم تفرق بين مُفكر وأُمى، لا يقرأ ولا يكتب. أغلق الدكتور فرج فودة، باب مكتبه بالطابق الأول من العقار رقم 2 بشارع أسماء فهمى فى مصر الجديدة، وبدأ يخطو متجهاً نحو سيارته التى تنتظره أمام العقار، وعن يمينه ابنه «أحمد»، وعن يساره صديقه «وحيد»، ممر يبلغ طوله نحو 10 أمتار من باب المكتب إلى باب السيارة مروراً من «بوابة العقار» الواسعة الحديدية السوداء، خطوات اعتاد أن يخطوها يومياً بعد انتهاء ساعات العمل والكتابة، لكنه لم يكن يعلم أنها فى هذه الليلة ستكون الخطوات الأخيرة.

اللواء فؤاد علام، وكيل جهاز أمن الدولة الأسبق، الذى شارك فى الكشف والتحقيق بالعديد من قضايا العنف والإرهاب أثناء عمله بالجهاز قبل الخروج على المعاش: «فى هذا النوع من القضايا، يكون القاتل هو الهدف الأول لأجهزة الأمن والتحقيق، لكنه ليس الهدف الأخير، ففور القبض عليه يصبح حلقة أولى لكشف تفاصيل القضية، والوصول إلى قيادات التنظيم وأفراد الخلية التى ينتمى إليها»، «علام» أوضح أن الأمن اتبع المنهجية نفسها فى حادثة اغتيال «فودة»، فبعد القبض على «عبدالشافى» تم الوصول إلى 12 متهماً آخر، جرى تقديمهم إلى العدالة. مطاردة بين سائق شجاع، وإرهابيين، انتهت بفرار السائق طلباً للنجاة، وهروب أحدهما هو «أشرف إبراهيم»، ووقوع الآخر «عبدالشافى أحمد»، تحت قبضة عدد من الأهالى وأحد أمناء الشرطة الذى اقتاده إلى قسم شرطة مدينة نصر بعد أن كبّل يديه بأساور من حديد. انتهت المطاردة، وتفرق ثلاثتهم: السائق، والمتهم الهارب إلى حين، والمتهم الذى ألقى القبض عليه، فيما تجمّع الثلاثة الآخرون، الأب والابن والصديق، فى «مستشفى الميرغنى»

الأقرب لمكان الواقعة إثر نقلهم إليها بعد مرور 30 دقيقة كانت كفيلة بأن يفقد الهدف الرئيسى للجناة، كميات كبيرة من دمائه ويصبح على «عتبة الموت» بتلقيه رصاصات عديدة تنخر فى أنحاء متفرقة من جسده. فور وصولهم للمستشفى بسيارة أحد المواطنين الذى توقف وتطوع بنقلهم، وجّه الأطباء «فودة الأب» الذى غاب عن الوعى تماماً إلى غرفة العمليات، فيما كانت الحالة مستقرة بالنسبة لـ«فودة الابن» الذى أصيب بكسر فى الساق اليسرى وجرح بمنطقة الظهر، و«وحيد رأفت» الذى أصيب بجرحين بفخذه اليمنى. جراحة استمرت لمدة 6 ساعات، شارك فيها 6 أطباء، إضافة إلى سابعهم طبيب التخدير، تحت إشراف الدكتور حمدى السيد، نقيب الأطباء الأسبق، الذى وصف العملية بأنها واحدة من أصعب العمليات الجراحية التى يمكن أن يواجهها فريق طبى فى العالم..

يلفظ «فودة» نفسه الأخير فى تمام الساعة الواحدة والنصف من صباح اليوم التالى، بعد أن توقف قلبه عن النبض، وفشلت جميع محاولات تنشيطه..
كنت فى منزل مصطفى الفقى، وفجأة جاء اتصال من الرئاسة، وكان مبارك بشخصه على التليفون، وقال: يا مصطفى خلّى د. حمدى ينزل من عندك ويروح المستشفى حالاً لإنقاذ فرج فودة».تدخل من رأس الدولة لم ينجح فى تضميد جراح أبرز مفكر تنويرى مصرى فى النصف الثانى من القرن العشرين، كما لم ينجح أيضاً فى مسح ماء وجه الدولة نفسها، التى كانت -ممثلة فى مؤسستها الدينية الرسمية الأزهر الشريف- شريكاً فى الجريمة، إذا لم تكن بالفعل والتحريض، فعلى الأقل بالصمت عن أصوات كثيرة تبارت فى إصدار فتاوى التكفير والردة واستباحة الدم، بعض أصحابها ممن يلبسون جلباب الأزهر وعمامته. عبدالغفار عزيز، الشيخ الأزهرى الذى تولى عمادة كلية الدعوة الإسلامية بالمنوفية وعمره 41 عاماً، كأصغر عميد لكلية أزهرية، كان أحد هؤلاء، حيث أصدر بياناً يكفر «فودة»، نشرته جريدة «النور» قبل الاغتيال بـ5 أيام فقط، ثم أصدر كتاباً بعد الحادثة، باسم «من قتل فرج فودة؟»، أورد فيه 4 اتهامات تفيد بردة المفكر، أولها رفض تطبيق الشريعة، حتى أنهى الكتاب بعبارة «فرج فودة هو من قتل فرج فودة». «وائل»، نجل الشيخ عبدالغفار عزيز، يدافع عن والده حتى اليوم، ويشيد بموقفه، ويفتخر به باعتباره «أحد أعلام الأزهر والدعوة الإسلامية»، مشيراً إلى أنه برىء من اتهامه بالتحريض على قتل «فودة»، لأنه أصدر فتوى بالتكفير، شاركه فيها كثيرون الذين قالوا بكفره لكنهم لم يدعوا لقتله، منهم الشيخ محمد الغزالى، أحد كبار مشايخ الأزهر، الذى حصل على جائزة الدولة التقديرية فى العام السابق لواقعة الاغتيال، وقال فى متن الشهادة التى أدلى بها أمام المحكمة: «إنهم قتلوا شخصاً مباح الدم، وتجاوزهم الوحيد هو الافتئات على الحاكم، لأنها وظيفة حاكم وليست وظيفة فرد»، اختتم الشيخ الأزهرى شهادته، وغادر المحكمة بنفس راضية،

تاركاً من ورائه كلمات سجّلها التاريخ، وظلت إلى اليوم محل انتقاد واسع، ليست من جانب النخبة الثقافية والفكرية فحسب، الذين اعتبروا أنها «شهادة دفاع عن الإرهاب»، لكن من جانب بعض الأزهريين الذين يمثلون تياراً مختلفاً بين أبناء العمامة القرمزية، «نحن لسنا أوصياء للدين، ولسنا آلهة من دون الله، كى نصدر حكماً على فلان بأنه أصبح مستحقاً للقتل، هذا كلام مردود على صاحبه، ولا يجوز شرعاً أو قانوناً»، قال الدكتور سعد الدين هلالى، أستاذ الفقه المقارن بالأزهر، مؤكداً أنه لا جناح على من يعمل عقله، حتى وإن خالف جمهور العلماء: «د. فرج فودة كان صاحب رأى، ومثقف ومفكر، وتكفيره غير جائز، وقتله جريمة، والفكر لا يناقش إلا بالفكر، وليس بالسلاح». فتاوى تكفير «فودة» التى أصدرها عدد من شيوخ الأزهر، و«بيان الردة» لجبهة علماء الأزهر، وفتوى «إباحة الدماء» لعمر عبدالرحمن، أمير تنظيم الجهاد، كانت كلها حاضرة بالزنزانة التى أقام فيها «عبدالشافى»، المتهم الأول، فى انتظار تنفيذ حكم الإعدام شنقاً الذى أصدره القاضى، الحكم الذى كان يعتبره «بائع السمك» الحاصل على دبلوم صنايع، بمثابة «الطريق للفردوس الأعلى»، بحسب نبيل نعيم، القيادى الجهادى السابق، الذى التقاه قبل إعدامه 1993: «قابلته قبل تنفيذ الحكم، وكان معترفاً ومؤمناً جداً بما فعله، ومقتنعاً أنه نصر الإسلام وأعز الدين، وقال لى: يا شيخ نبيل أنا قتلت كافر بإجماع أهل العلم، وحبل المشنقة هيكون طريقى للجنة». «نعيم» أحد مؤسسى تنظيم الجهاد، الذى كانت تربطه علاقات بأطراف إسلامية مختلفة داخل وخارج مصر، قبل أن ينشق عن التنظيم، أوضح أن «عبدالشافى» وشريكه «أشرف» كانا ينتميان للجماعة الإسلامية، وقررا تنفيذ العملية بعد تكليف نقله إليهما المحامى «منصوراو منتصر »، من صفوت عبدالغنى، القيادى بالجماعة، الذى كان محبوساً على ذمة قضية أخرى، مضيفاً: «منصور نقل التكليف لعبدالشافى، وقال له: الشيخ صفوت بيقول لك مفيش حد يخلصنا من فرج فودة»، الرواية التى ذكرها «نعيم» هى الرواية نفسها التى ذكرها «عبدالشافى» فى اعترافاته أمام نيابة أمن الدولة عليا طوارئ..

لافتة صغيرة، اغتالها هى أيضاً الإهمال حتى تهالكت، لكنها لا تزال تحمل اسمها «المصرية للتنوير»، وتحمل اسمه «فرج فودة».. أو قل: «شهيد الفكر».!!


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter