سواء كان الرجل سائق «توك توك» أم مدرساً أم أستاذاً فى الجامعة.. مأجوراً كان أم صادقاً.. وسواء كان الحديث تلقائياً أم مقصوداً.. لا بد أن يقرأ جيداً.. هذا الحديث الذى رآه الملايين بحماس شديد ودون تفكير، لأننا أصبحنا بفعل السنوات الخمس الماضية أساتذة سياسة واقتصاد واستراتيجية وتاريخ وأمن وفلسفة وخطابة حنجورية.. أصبحنا نعشق السلبيات والسواد والنقد والتجريح، لأننا نعرف ونفهم أكثر من الوزراء والمسئولين ورئيس الجمهورية.
هذا الحديث الذى قلب مصر رأساً على عقب، به جملة وحيدة ربما لم ينتبه إليها الكثيرون، وهى لب الموضوع.. قال هذا المفوه الخطيب المتحمس (قبل ما يحصل انتخابات لرئيس الجمهورية كان عندنا سكر بيكفينا، وكان عندنا أرز وبنصدره)، وكل ما جاء بعد ذلك هو مبنى على هذه الجملة.. أصبحنا مثل الصومال، ومصر لا تنهض ولا تروح ولا تيجى، وعمالين «يرموا» الفلوس فى مشاريع قومية مالهاش لازمة، والناس جعانة وهندخل فى الحيطة، إلى آخر الخطبة العصماء.. إذاً هو يتحدث عن مصر بعد انتخاب الرئيس السيسى، ويؤكد أن مصر قبله كانت تعلم اليابان النهضة، وتحكم «تشاد والسودان والسعودية»، ما أعرفش إزاى؟؟ ومداينة إنجلترا، وترسل الكسوة كل عام إلى الكعبة المشرفة، وهذا هو الهدف الرئيسى من الحديث المغلوط والمخلوط بشتى المعلومات التى لا رابط بينها ولا منطق، والرسالة هكذا واضحة.. الرئيس يبنى دولة ومشاريع عملاقة قومية على جميع المستويات والمواطن الغلبان سواق «التوك توك» مش لاقى ياكل، وها هو يصرخ حتى وصلت صرخاته إلى جريدة «الواشنطن بوست»!!! وبعيداً عن الهدف من هذه الرسالة، التى لن تكون الأخيرة، فالحقيقة أن مصر مرهقة بالفعل.. لكن مَن فعل هذا بمصر يا عزيزى السائق أو المدرس أو المذيع؟ الذى فعل هذا بمصر هو الذى أحرق مائة وعشرين قسم شرطة غير المحافظات والمحاكم فى 48 ساعة فى يناير 2011.. الذى أشعل الحرائق واقتحم السجون وأخرج الحكام الجُدد ليهدموا مصر.. هو الذى هاجم مجلس الوزراء ومجلس الشعب والمتاحف وحرق المجمع العلمى.. هو الذى نزع بلاط الشوارع وحطم الأرصفة ولطخ الحوائط، هو الذى أوقف السياحة إلى يومنا هذا وطرد المستثمرين وأغلق المصانع وألقى بالعاطلين على المقاهى.. الذى فعل هذا بمصر هو الذى جاء بالإرهابيين ليحتلوا سيناء وينتشروا فى شوارعنا إلى يومنا هذا، يفجرون أبناءنا ويغتالون رجالنا من الشرطة والجيش والقضاء.. الذى فعل هذا بمصر هو الفوضى الخلاقة التى ارتدت رداء الثورة، والتى جعلت الفساد يستشرى ويتوغل أضعاف أضعاف الماضى فى غيبة الدولة وغفلة القانون، الذى فعل هذا فى مصر هم من خدعوا الشعب لينتخب الإخوان أنصار الديمقراطية الأمريكية وأصحاب مشروع النهضة، الذين دمّروا مصر وكادوا يبيعونها بالجملة والقطاعى، والذين تركوها تشتعل من شمالها إلى جنوبها ودمروا الطرق وحرقوا محولات الكهرباء وأظلموا حياة مصر.. الذى فعل هذا بمصر هو ثقافة الفهلوة والمكسب السهل السريع الذى يلقى بالأطفال إلى الهجرة ليموتوا غرقاً بحثاً عن كنز مدفون فى بلاد الخواجات.. الذى فعل هذا بمصر هو هذا «التوك توك» الذى يدخل البلاد خلسة، والذى يسوقه السيد المفوه بلا رخصة ولا ضريبة، ويستعمل البنزين المدعم ويُحدّد الأجرة حسبما يشاء، وربما يكون هو هو الشخص نفسه الذى يثور ويفور عندما يسمع عن زيادة سعر تذكرة المترو إلى جنيهين، بينما يأخذ هو من الناس ما يشاء من خمسة حتى خمسة عشرة جنيهاً.. من فعل هذا بمصر هم المتربصون معدومو الضمير صناع الأزمات الذين يجمعون السلع الأساسية، ويصنعون سوقاً سوداء للسلع الضرورية، التى سوف تتوالى مع الأيام المقبلة.. الذين يفعلون ذلك بمصر هم بعض من معدومى الضمير والوطنية من الإعلاميين وأصحاب الكلمة الذين يصدرون للشعب المرهق هذا الكم من التشاؤم والسواد والفشل.
«السيسى» يا عزيزى الخطيب المفوه تسلم شبه دولة معدومة الاحتياطى، تنوء بالمشكلات والكوارث، وهو يلهث ويهرول خلال عامين ونصف، ليقيم الدولة ويشيد المشاريع القومية العملاقة، وأنت تركب «التوك توك» ومنتهى آمالك أن تُشيد كشك سجائر تسرق له الكهرباء من الرصيف، لأن هذا عقلك، وذاك واجبه.. لقد عشنا من قبل وبعد هزيمة 1967 ستة أعوام نبحث عن السكر والأرز والزيت والشاى.. عشنا ولم نشكُ لأن مصر كانت فى خطر، عشنا تحت ظلال الذل والعار نتمنى يوماً أن نصحو على حرب تحرير لا نرى لها أى مؤشر.. بل عشنا بلا سيناء نفسها ست سنوات ونحن سند للقيادة والجيش.. كنا سنداً لمصر.. حتى عادت.. حوربنا بإشاعات قاتلة بأننا لن نعبر ولن نستعيد أراضينا لمدة ست سنوات، ولم نيأس حتى استعدناها بسواعد رجال ما زالوا حتى يومنا هذا يموتون من أجلها ويشيدون ويعملون تحت شمس حارقة ليبنوا من أجلها.. من فعل هذا بنا وبمصر هو من أسهم فى تفريغ الحس الوطنى لدينا ولدى شبابنا.
ويا كل أصحاب الأصوات والأقلام والشاشات.. ليس لكم وطن آخر غير مصر.. وليس لكم من مكسب آخر غير أن تعيشوا على أرضها، اسألوا أنفسكم السؤال نفسه الذى ردده السائق الفصيح.. مَن فعل هذا بمصر؟ واصدقوا القول مع أنفسكم وتذكروا أن مصر هى حائط الأمان الأخير الذى -لا قدر الله- لو سقط، فلن ينجو أحد.. حفظ الله مصر من شرور أبنائها.
نقلا عن الوطن