بقلم : الأنبا إرميا | السبت ١٥ اكتوبر ٢٠١٦ -
٠٠:
١٠ م +02:00 EET
الأنبا إرميا
استكملنا فى المقالة السابقة الأحداث التى مرت بـ«البابا مَرقس الثانى» حتى نياحته عام ٨١٩م. ثم تكلمنا عن الخليفة «مُحمد الأمين» واختلاف المؤرخين فى الحكم على شخصيته، فقد ذكر بعضهم أنه: كانت تُعوزه الحُنكة السياسية، مستهتَرًا، مسرفًا، بلا تروٍّ، مع عدم قدرة على تبصر عواقب الأمور، فى حين ذكر آخَرون أنه كان قليل الصرامة يبتعد عن القسوة والشدة، وقد روى فى شأنه أحدهم أنه طُلب إليه أن يَقبِض على ولدَى «المأمون» ويهدد بهما، فغضِب وقال: «وتدعوننى إلى قتل ولدىّ وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا لَتخليط (إفساد)!!»، وقد قيل فيه أيضًا إنه كان رجلاً مثقفًا واسع الاطلاع فى مجالات شتى من اللغة والفقه والأدب والتاريخ، وأنه كان يتسم بالذكاء وتوقد الذهن كشهادة معلميه له مثل «الكسائى» و«الأصمعىّ»، كما كان فصيح اللسان، خفيف الروح، سريع البديهة، طيب القلب يعفو عن الجميع حتى المسيئين إليه والخارجين عليه.
أمّا عن أحوال البلاد فى ذلك الزمان، فلم تلبث الأمور قليلاً حتى بدأت مشكلات أعقبتها حُروب دبت بين الأخوين «الأمين» و«المأمون». فكما ذكرنا سابقًا، فإن الخليفة «هارون الرشيد» قسّم البلاد بين بنيه: فجعل «للمأمون» الشرق وهو «خُراسان» و«الرِّىّ» إلى «همَِذان»، وقسم «للأمين» الغرب نصيبًا وهو «المغرب» و«مِصر» و«الشام»، ووهب «للمؤتمَن» (الجزيرة، الثُّغور، العواصم)، واضعًا لهم نظامًا فى ولاية العهد حيث عهد بها من بعده لابنه «الأمين»، ثم «المأمون»، وآخِرًا «المؤتمَن»، وقد سجل «هارون الرشيد» ذلك فى مواثيق عُلقت فى «الكعبة» فى أثناء قيامه بمراسم الحَِج عام ١٨٦هـ، وطلب من الأخوين أن يُخْلص كل منهما للآخر، وأن يترك «الأمين» لأخيه «المأمون» بلاد المشرق: ثغورها وكوَرها وجندها وخَُراجها- أى ضرائبها- وبُيوت أموالها وصدقاتها وعُشورها وبريدها. إلا أنه بعد وفاة الخليفة «هارون الرشيد»، وهو فى طريقه إلى «خُراسان» على رأس جيش لإخماد ثورة «رافع بن ليث» هناك، مصطحبًا معه ابنه «المأمون»، أرسل «الأمين» رسولاً له يُدعى «بكر بن المعتمر» حاملاً خطابين: الأول إلى «المأمون» يعزيه عن موت والدهما، طالبًا الخلافة لنفسه، وأن تكون ولاية العهد من بعده «للمأمون» ثم لأخيهما «المؤتمَن»، والثانى كان لأخيه «صالح» يطلب إليه فيه أخذ البَيعة من أتباعه له فـ«للمأمون» ثم «للمؤتمَن»، حاثًّا إياه على الإسراع بالحضور إليه ومعه الجُنود والذخائر، وألا يفعل أمرًا كبيرًا أو صغيرًا من دون رأى «الفضل بن الربيع» الذى كان فى صحبة الخليفة «هارون الرشيد» وقت موته، فقام «الفضل بن الربيع» بإعادة الجند إلى بلادهم، ثم حضر إلى «الأمين» فى «بغداد» وبايعه بالخلافة، فسُر به «الأمين» وأقامه وزيرًا وعهِد إليه بتدبير أمور الحكم.
أما «المأمون»، فقد اتجه إلى «خُراسان» وبلاد الشرق، واتبع سياسة حكيمة رسمها له وزيره ومشيره «الفضل بن سُهَيل» إذ تقرب إلى رؤساء العشائر وإلى رعيته بتخفيف الضرائب عن كاهلهم، وأرسل إلى الفقهاء وطلب منهم أن يحكموا بالحق، فامتلأت البلاد من العدل وأحبته الرعية بشدة وناصروه، وقد ظل أمينًا على العهد مع أخيه «الأمين» فكان يراسله ويرسل إليه بالهدايا.
وهكذا ظل الأخوان فى سلام فترةً لم تدُم طويلاً! إذ بدأ رجال الحاشية فى إشعال نار الحقد والفتنة بينهما حتى اتسعت هُوة الخلاف وبدا أن حربًا وشيكة الوُقوع!! فقد أخذ «الفضل بن الربيع» فى حث الخليفة «الأمين» على خلع «المأمون» من وِلاية العهد وإعطاء ابنه «موسى» إياها مِن بعده. وقد أذعن «الأمين» لمشورة وزيره، وكان ذلك فى أواخر عام ١٩٤هـ (٨٠٩م)، ثم عزل أخاه «القاسم» عن الأعمال التى أُسندت إليه من أبيه «هارون الرشيد». وبلغت تلك الأخبار مسامع «المأمون» فأدرك أن أخاه يسعى لخلعه، فقطع البريد عنه، وبدأ صراع سياسى مرير بين الأخوين. وفى تلك السنة أيضًا، أرسل «الأمين» وفدًا إلى «المأمون»، يتقدمه «العباس بن موسى بن عيسى»، طالبًا منه تقديم «موسى بن الأمين» على نفسه فى ولاية العهد، لكن «المأمون» رفض طلب الخليفة، فما إن علِم «الأمين» بذلك حتى امتثل لمشورةَ وزيره «الفضل بن الربيع» فى خلع «المأمون» ووضع ابنه وليًّا للعهد. ويذكر المؤرخون: «لم يكتفِ (الفضل) بهذا ولا بكثير من أمثاله... من نهيه عن ذكر (عبدالله المأمون) و(القاسم بن الرشيد)، وحظْر الدعاء لهما على المنابر، بل دس مَن ذكر «المأمون» بسوء، وحط من قدره...»! ثم أرسل «الأمين» بمن جاءه بالمواثيق التى كتبها «هارون الرشيد» من «الكعبة» ومزقها.
وإزاء تلك الأحداث وازدياد الخلافات، بدأ «المأمون» فى الاستعداد بإرسال قوات من الجيش لتأمين حُدود بلاده إذ بدأت مخالب الحرب لائحةً فى الأفْق، وبالفعل لم يعُد طريق للسلام بين الأخوين فاشتعلت الحرب بينهما. وعندما رفض «المأمون» تلبية مطالب «الأمين» قرر إرسال جيش بقيادة «على بن عيسى بن ماهان» لإخضاع أخيه، وكان ذلك فى العاشر من جُمادَى الآخِرة عام ١٩٥هـ (التاسع من مارس عام ٨١١م). وعند وُصول جيش «الأمين» إلى مدينة «الرِّىّ»، حيث جُنود «المأمون» بقيادة «طاهر بن الحسين» التى تحرس الحُدود، وقعت حرب شديدة بين الطرفين كان النصر فيها حليفًا لجُنود «المأمون».
ولم تتوقف محاولات «الأمين»، إذ أرسل جيشًا آخر بقيادة «عبدالرحمن بن جَبَلة» إلى مدينة «هَمَِذان»، فالتقى الجيشان وتحاربا فى معركة عنيفة شرسة انتصر فيها جُنود «المأمون» مرةً ثانية، وبذلك النصر بدأت قوات «المأمون» فى الزحف إلى «قزوين» التى فر حاكمها المعيَّن من قِبل «الأمين»، فوضع «المأمون» عليها حاكمًا آخر من أتباعه.
وأدت الهزيمتان اللتان تعرض لهما «الأمين» إلى اضطراب الأوضاع فى «بغداد» ما أدى به هو ووزيره إلى إعداد جيش كبير وصل قِوامه إلى ٤٠ ألف مقاتل، بقيادة «أحمد بن مزيد» و«عبدالله بن حُمَيد» اللذين نزلا إلى «حُلوان» لإبعاد جيش «المأمون» عنها، لكن خلافًا دب بين قائدَى جيش الأمين فتقاتلا، وعادا إلى «بغداد»، وهو ما أتاح الفرصة لتقدم جيش «المأمون» ودُخول «طاهر بن الحُسَين» إلى «حُلوان» عام ١٩٦هـ (٨١١-٨١٢م). وبدأ «المأمون» يستعد للتوجه بجيشه إلى «بغداد» من الاتجاهين الشرق والغرب، فأرسل «هَرْثَمة بن أَعيَن» إلى «حُلوان»، وطلب من «طاهر» أن يتوجه إلى «الأهواز»، وبذلك تتحقق له محاصرة «بغداد» من الجهتين.
فى ذلك الوقت، بدأت قوة الخليفة «الأمين» تخور إذ تزايدت الثوْرات ضده من «الشام« و«مكة» والمدينة، ثم ثار عليه «الحُسين بن عليّ بن عيسى» الذى أرسله لإخماد ثورة «الشام»، فعاد إلى «بغداد» فجأة، مزمِعًا خلعه، فهيَّج أهل «بغداد ضده» وشتت حرسه حتى تمكن من القبض عليه هو وأمه وسجنهما فى قصره بـ«بغداد»، وأعلن الحُسَين «المأمون» خليفةً، لكن بعضًا من أهل بغداد ثاروا على «الحُسَين»، وألقَوا القبض عليه، وأعادوا «الأمين» إلى عرشه، وقدموا إليه «الحُسَين» فعفا عنه ورده إلى قيادة الجُيوش، لكنه قُتل بيد الجُنود.
وفى تلك الأثناء، تقدمت جُيوش «المأمون» واستولت على «فارس»، ثم «واسِط»، فـ«الكوفة»، وتلاها مدينة «البصرة»، ثم «المدائن»، فأصبح الطريق مفتوحًا إلى «بغداد»، و... وفى «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى...!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع